منذ سنوات قليلة كان مثل هذا السؤال ضرباً من الخيال، يدور بين المتطرفين فقط في أميركا وخارجها، الذي لم يستبعدوا أن تعجز أميركا عن تسديد ديونها، بل تعلن إفلاسها، لأنها لن تتمكن من الاستمرار في الاقتراض إلى ما لا نهاية. وفي المقابل كان خبراء المال والاقتصاد يردون أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تفلس أو تتوقف عن تسديد ديونها، لأن النظام المالي العالمي قائم على استمرارها كقطب لرحاه، ولهذا فسيجد العالم وأميركا وسائل لاستمرارها في الاقتراض مهما بلغ دينها العام، ولكن هذه المسلمات تعرضت للاهتزاز والشك يوم الأربعاء الماضي (8 يونيو)، حين صعقت وكالة (فيتش) العالم بإعلانها أنها قد تخفض التصنيف الائتماني للحكومة الأميركية فيما لو لم تتمكن من تسديد ديونها المستحقة هذا الصيف.

وقالت وكالة فيتش، وهي إحدى أهم ثلاث وكالات متخصصة في التصنيف الائتماني، إنه في حال امتنعت الحكومة عن تسديد ديونها المستحقة بتاريخ 15 أغسطس 2011، فإنها ستخفض التصنيف الائتماني لسندات الخزينة بأنواعها إلى أدنى مستوى، أي من AAA إلى Junk وإن ذلك سيستمر إلى أن تسدد الحكومة التزاماتها، وإن من المشكوك فيه بعد ذلك أن يعود التصنيف الائتماني إلى سابق عهده.

وقد أتى بيان فيتش في أعقاب تصريح بعض أعضاء الكونجرس من الحزب الجمهوري بأن التوقف عن تسديد الديون "لفترة قصيرة المدى" قد يكون شيئاً مقبولاً، لأنه سيدفع البيت الأبيض إلى التوصل إلى حل مع الكونجرس حول عجز الميزانية المتنامي. وإعلان عدم القدرة على الدفع، أي الإفلاس بالنسبة للمواطن العادي، قد يكون متحتماً في شهر أغسطس 2011، فيما لو رفض الكونجرس رفع سقف الدين الحكومي الأميركي فوق معدله الحالي البالغ (14.3) تريليون دولار.

واستغل البيت الأبيض تصريحات وكالة فيتش لكي يؤكد موقفه السابق بأنه لا بديل عن رفع سقف الدين الحكومي، لأن الأمر يتعلق بتسديد التزامات مالية للولايات المتحدة الأميركية بأسرها. وأصدرت وزارة الخزانة بياناً آخر تقول فيه إن تصريح وكالة فيتش هو تذكير صريح بضرورة أن يتحرك الكونجرس سريعاً لمعالجة الأمر (أي أن يوافق على طلب الإدارة برفع سقف الدين الحكومي). وقال وزير الخزانة تيموثي جايثنر إن توقف الحكومة عن تسديد ديونها، وهو ما سيحدث لو رفض الكونجرس رفع سقف الاقتراض، ستكون له تبعاث "كارثية" على الأسواق العالمية.

وتلقى موقف الحكومة دعماً من البنك المركزي الأميركي، حيث قال جيمس بولارد، رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي في سينت لويس إن الوضع المالي للولايات المتحدة، ما لم يتم التعامل معه بالشكل الصحيح، قد يتحول إلى صدمة مالية للعالم بأسره.

وقد أصدرت وكالات الائتمان الأخرى، موديز وستاندر أند بور، تحذيرات مشابهة لتحذيرات وكالة فيتش، وبالنسبة لشركة موديز، فإنها أعطت الحكومة مهلة إلى منتصف يوليو فقط للتوصل إلى حل، وإلا فإنها ستخفض التصنيف الائتماني للحكومة الأميركية. وقالت هذه الوكالات حتى في حالة الإفلاس المؤقت أو ما يُسمى "الإفلاس الفني" فإن ذلك مؤشر إلى أزمة حكومية تمس التصنيف الائتماني السيادي للدولة.

ومع أن وكالات التصنيف تبدو مقتنعة بأنه في نهاية المطاف سيُضطر السياسيون إلى التوصل إلى اتفاق حول سقف الاقتراض الحكومي، إلا أن هذه النقاشات في حد ذاتها في واشنطن، تشغل بال الأسواق، على الرغم من علمها بأنه في نهاية المطاف سيتوصل العقلاء إلى حلول تحفظ للدولة تصنيفاً ائتمانياً معقولاً، قد يكون دون التصنيف العالي حالياً، يسمح لها بالاستمرار في الاقتراض في الأسواق المالية.

ويحاول الرئيس أوباما أن يحصل على موافقة من الكونجرس لرفع سقف الدين الحكومي قبل 2 أغسطس، ولكن في حالة فشلت الحكومة والكونجرس في التوصل إلى اتفاق قبل ذلك التاريخ، ولم تتمكن وزارة الخزانة من تهيئة حلول بديلة، فإن وكالة فيتش ستضع الولايات المتحدة تحت "المراقبة السلبية". ونظراً إلى أن هناك سندات حكومية بقيمة (30) مليار دولار ستحل في 4 أغسطس فإن عجز الحكومة عن تسديدها كاملة في ذلك التاريخ، قد يدفع الوكالة إلى تخفض تصنيف تلك السندات من AAA إلى B+.

ولكن الامتحان الحقيقي سيكون في 15 أغسطس، حينما يحل تسديد سندات وأقساط تبلغ قيمتها 52 مليار دولار. وفي حال لم تتمكن الحكومة من السداد حينئذ، فإن الوكالة ستخفض التصنيف الائتماني للحكومة الأميركية كلها، وليس فقط تلك السندات، إلى B+ . ومع أن الامتناع المؤقت عن التسديد لا يعني عدم قدرة الحكومة على سداد مستحقاتها مستقبلاً، إلا أن ذلك التوقف المؤقت سيخفض من تصنيفها الائتماني، وسيمنع الولايات المتحدة من العودة إلى تصنيفها الحالي، على الأقل في المدى القصير والأوسط.

ما هو الدرس من ذلك كله؟

قد تكتشف الأسواق خلال هذا الصيف أن "ملابس الإمبراطور" شفافة جداً، وتبحث عن قائد آخر للنظام المالي العالمي غير الولايات المتحدة!