استفزت قصة "المرأة المطرودة .. أين وإلى متى؟" التي تناولتها في موضوع الأسبوع الماضي؛ أحد الإخوة الكرام الذي أسر لي بقصص أخرى اخترت منها هذه القصة بعد إذنه. أما سبب العودة إلى نفس الموضوع؛ فهو لتكريس الحاجة الملحة إلى استحداث الأنظمة الخاصة بالأحوال الشخصية في مملكتنا الحبيبة، التي ستقضي عند تطبيقها على الكثير من هذه المشاهد المأساوية.

أنا عزيزة نفس. بهذه العبارة تبدأ كلامها مع صاحبي وتختمه. إنها امرأة أذلها زوجها، ولم تنصفها الأنظمة. طلقها الزوج، وخرجت من بيته هي وابنتها الصغيرة البالغة من العمر 8 سنوات، غير أن الزوج رفض إخراجها من بطاقة العائلة، وتلاعب في مواعيد إصدار صك الطلاق. هذا يعني في عرف النظام أنها مازالت متزوجة. وهذا بالتالي يعني أنها لا تستحق أن تستلم أي مبالغ من الضمان الاجتماعي، فضلاً عن عدم قدرتها على التنقل والسفر، والعمل والتعليم، أو أي ممارسة أخرى. النظام المتبع لدينا ينص على موافقة ولي الأمر (الزوج) على أي شيء. دعونا من النفقة، فهذه ربما كالحلم لدى هذه السيدة من ذاك "الرجل"، لكنها لم تعتبر هذا الموضوع أساسياً، لعزتها بنفسها. تقول إنها ذهبت للمحكمة في محافظة جدة، ولم تخرج بنتيجة إيجابية إلا بعد خمس سنوات على بدء المراجعات. نعم خمس سنوات من المعاناة والمواعيد. النتيجة التي خرجت بها هذه السيدة؛ ليست ناتجة من تطبيق نظام، بل من توفر معارف ووساطات، كما سيأتي. يقول صديقي: إن قصة هذه السيدة ـ وفي السنة الثالثة من محنتها ـ وصلت إلى إحدى قريباتي. ويسترسل.. إنني لم أصدق في البدء أن يحدث هذا، حتى تبين لي الأمر بشكل واضح. بادر هذا الرجل الشهم مع بعض المخلصين بالشروع بمحاولة وضع حلول لهذه المشكلة الإنسانية. القضية كانت مجمدة بسبب غياب الرجل عن الحضور للمحاكمة. هي هكذا بكل بساطة وألم. كان القاضي يصدر أوامره بطلب حضور الزوج للمحكمة، ويوجه هذا الطلب للشرطة. الشرطة تحيل الموضوع إلى فروعها في مكة المكرمة، لأن الزوج كما يبدو انتقل إلى هناك. تحول شرطة جدة معاملة الطلب إلى مكة، وتبحث الأخيرة عن الرجل في حي الشرائع فلا تجده، لأنه لا يعمل عملاً ثابتاً، فهو يتجول بكامل حريته من مكان إلى آخر. تعود المعاملة إلى جدة بلا أي نتيجة. تمر الأشهر والسنوات، والمسكينة لا تدري ماذا تفعل؟

أخيراً وقفت المرأة أمام موظف الخطوط السعودية، ترجو منه أن يسمح لها بالسفر إلى الرياض، قناعةً منها بأن الحل ربما يأتي من العاصمة. في وقت حدوث هذه المأساة لم يكن يُسمح للمرأة أن تسافر حتى في الرحلات الداخلية دون موافقة زوجها. ولهذا فالنظام يمنع إصدار تذكرة دون وجود ولي الأمر. المحصلة أنها لم تتمكن من الوصول إلى الرياض.. والمأساة تستمر.

كيف تم حل القضية؟ يقول صديقي إنه وجد شخصاً يعرف قاضياً في إحدى محاكم جدة المتخصصة ويثق به، عندما شرح له المشكلة حلها هذا القاضي في أقل من أسبوع، لينهي هذه الدراما السيئة. بقي أن نتذكر أن ابنة هذه السيدة قد فقدت أربع سنوات من عمرها دون دراسة في المدرسة، كون المدرسة تتطلب أيضاً موافقة من هذا الولي الآمر الناهي. وبقي أن نتذكر أيضاً أن الزوج اليوم حر طليق، ولم تحدث له أي مساءلة، ولم يواجه بأي عقوبة رادعة، رغم عظيم الجرم الذي اقترفه بحق أسرته. النظام لدينا لا يوجب معاقبة الزوج المهمل للمواعيد في المحاكم، بل إن النظام ربما لا يعاقب أي شخص تخلف عن الموعد القضائي. وأرجو أن أكون مخطئاً.

ما الذي نتحدث عن غيابه هنا؟ نحن يا إخوان وكما أشرت في بداية الموضوع، نتحدث عن غياب "نظام الأحوال الشخصية". المملكة اليوم بأشد الحاجة إلى استصدار مثل هذا القانون وتطبيقه. سمعت أن هناك مسودة موحدة لمثل هذا النظام، تمت صياغتها لعموم مواطني دول مجلس التعاون لكنني لا أعلم أين هي اليوم، ولماذا لم تقر بعد؟ سمعت أيضاً أن نظام الأحوال الشخصية هو ضمن برنامج خادم الحرمين الشريفين لتطوير القضاء في المملكة، والذي مر على الأمر به سنوات، ولم يعمل به حتى الآن. حقيقة لا أدري هل هذه المعلومة دقيقة أم لا؟ وإذا كانت صحيحة ـ كما يفترض أن تكون ـ فلماذا يتم تأجيل إقرارها؟

هل نحن سعيدون ومستمتعون بهذا المشهد الهوليودي الذي تتناوله الأحداث كل يوم؟ في المملكة ترتفع نسب الطلاق بشكل لافت، ومن غير الحكمة أن نفترض أن ما قد يحدث بين زوجين أمر عارض أو نادر.

الذي يجب أن ندركه هو أن نظام الأحوال الشخصية لا يتوقف عند الزواج والطلاق، بل يمتد إلى تناول الكثير من الحقوق الغائبة هذا اليوم عن الأفراد "الشخوص" التي لا تسير إلا بوجود معارف، أو وساطة. حق التعليم، وحق النفقة، وحق السفر والإقامة، وحق العمل، واستلام المكافآت، وحق إنشاء المؤسسات وممارسة التجارة. النظام أيضاً يغطي مواضيع الميراث والنفقة، ويحل معظم ما يتعلق بهذه الأمور من عوالق. أمور متعددة لا حصر لها، سيغطيها مثل هذا النظام، وسينعم الجميع بعد تطبيقه بالكثير من الراحة، وفوق ذلك الاحترام والكرامة.

من الجهة الأخرى، لا يمكن لأجهزة الدولة القضائية والأمنية والحقوقية اليوم أن تتعامل مع هذه المعضلات بعفوية وارتجال وأعدادها في ازدياد. غداً سيرتفع عدد سكان المملكة إلى ما يقارب الأربعين مليون نسمة، هل سنستمر في هذا الارتباك، وهذه العفوية المدمرة والمكلفة مادياً ومعنوياً؟ هل سنستمر في تعاطينا مع هذه القصص المثيرة، وكأننا سكان هجرة لا يتجاوز عددهم ألفي شخص؟ الواقع أنه وكما أننا بحاجة إلى استبدال الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد منتج، فإننا أيضاً بحاجة إلى التخلص من المجتمع الأبوي، والدخول في مجتمع المؤسسات والأنظمة. إن لم نفعل ذلك ـ وبالسرعة الممكنة ـ فإن مصيرنا حقيقةً هو الإرهاق، والتأخير، والمعاناة المستمرة، والضرر، وهذه مصائب قد تجر وراءها الكثير من الضغائن والقهر، والانتقام الذي سينعكس على الأجيال المستقبلية، ويؤثر على قدراتهم وإبداعاتهم.