لا تكتب رجاء عالم لتفوز.. ولا تفوز لتحتفي وتزدهي، بل لتشحذ طاقتها، وتواصل ركضها، تسكب من عمق نظرتها للكون.. وفلسفتها، وعشقها للتراث، واستلهامه الماضي، في معين الفن بمختلف صنوفه وقوالبه الكتابية والبصرية. وهاهي الآن في (فينيس) أو مدينة البندقية الإيطالية تدير هي وتوأمها الفني شقيقتها شادية، جناح المملكة هناك، حيث اختيرتا لتمثيل المملكة في جناحها الافتتاحي بمعرض الفنون، أو بينالي البندقية الرابع والخمسين. وهي المشاركة الأولى للمملكة. العمل الذي يحمل اسم "القوس الأسود" أو "الفلك الأسود"، يعبر عن رؤية رجاء وشادية، تحملانها من موطنهما في مدينة مكة المكرمة إلى مدينة البندقية، في رحلة يختلط فيها الماضي بالحاضر. ولقد حقق العمل نجاحا لافتا، وحصد إعجابا كبيرا من قبل زائري جناح المملكة في البينالي، لتثبت مشاركتهما للعالم بأن المرأة السعودية موجودة وليست مصنوعة كما يتصور البعض، حسب تعبير رجاء وشادية في تصريح لهما.

وتحضر مكة المكرمة في هذا المشروع الفني الفلسفي إلى البندقية كمركز لجسر الثقافات من خلال القوس الأسود، (حيث الأسود رمز رداء الكعبة الأسود، والصورة الظلية للمرأة. ومن هنا تتجلى رمزية مكة في وجدان رجاء عالم، وتموضعها في رؤيتها الكونية لماهية الإنسان،وجماليات الاختلاف، وسرمدية العلاقات بين الكائنات.

وهكذا، وفي كل مرحلة من مراحل خلقها الإبداعي، وكل عمل من أعمالها، تأبى رجاء إلا أن تطوف بنا جبال مكة وسهولها، لندلف معها عبر بوابة المقدس بوابات الحرم، وحصواته القديمة، وصحن الطواف،ومراتع الحجيج... وعبر دهاليز الغرائبية والعجائبية، والأسطورة واللامعقول أزقة المدعى والغزة، وسوق الصاغة، وسوق الصغير.

وفي مزجها بين التاريخ والتخييل، والمعقول واللامعقول في قوالب حكائية ونماذج سردية تطفح بالطقوس والخرافات، وتعبق بالنفس الصوفي والتسبيحات، وذكريات الحج والعادات المكية، والتحولات، تلج بنا رجاء عالم إلى قلب المجتمع المكي بقماشته المزركشة بأزياء البشر من كل أصقاع الأرض، ونسيجه المتجانس من خلطة الأعراق الذائبة في عروق وحدته وتعدده، وتشابهه واختلافه في آن واحد.

ومنذ بواكير أعمالها وحتى روايتها الأخيرة "طوق الحمام" التي نالت من خلالها جائزة البوكر، ظلت رجاء عالم وفية لمكة وذاكرتها، وحافظت على ولائها السردي للثيمات المكية المرتبطة بذاكرتها التاريخية وقدسيتها وما تحيل إليه من حكايات المجاورين، والهجرات، والظروف الإجتماعية والسياسية التي واكبت تبلور هوية المجتمع المكي وإلانصهار الإثني والعرقي في بوتقة التعددية والاختلاف الموحد لا الطارد أو المنفر في طراز أممي فريد.. تقول صاحبة "طوق الحمام"

"مكة أعتبرها اعتباطاً كنزي الشخصي، إرثي الذي آل إليَّ عشقاً، استحققته حباً وافتتاناً بمكان يحكيه أبي وجدتي".

إنها النوستالجيا تستعر في ذاكرة رجاء، فتهرع لتعانق هذا السياج المكي وتنظم من خيوط سردها أسرار هذه الوشيجة الروحية بينها وبين مكة.