لم أسمع بأحد في طول وعرض شوارع الثورات العربية يرفع الشعار البديل: الشعب يريد تغيير الشعب. لم أسمع بأحد طوال الأشهر الأخيرة يطرح السؤال الجوهري: هل تكمن مكامن هذا التخلف العربي في الأنظمة التي تعلق عليها هذه الشعوب مشاجب هذه القهقرى والرجعية أم أن العيب في الثقافة الشمولية التي نشأت عليها هذه الشعوب، والخبز من العجينة. هل الخلل في الشعوب أم في الأنظمة. في الثقافة الاجتماعية المسيطرة أم في النخب السياسية التي تداولت في القرن الأخير مقاليد السلطة، هو القانون البسيط في دورة الدجاجة والبيضة وأيهما كان الأول في لقاح هذه الدورة. وأكثر ما يؤلمني ليس إلا مشهد الأطفال وشباب ما دون العشرين وقد لقنوا هذا (الكوبليه) اللغوي: الشعب يريد إسقاط النظام، وكأن سقوطه كفيل بأن يفتح مستقبلاً مختلفاً وهم الذين سيكتشفون حين يصلون إلى أيامنا نحن في قادم العمر أن الثورة الحقيقية كانت يجب أن – تجب – هذه الثقافة السائدة التي زرعت في هذه الشعوب ذيل هذا العالم الذي أصبح رأسه بعيد المنال بسنوات ضوئية.
تأملوها، فقط، في المقاربة التالية: وبافتراض أن اثنين وعشرين بلداً عربياً قد غيرت وزاراتها كاملة ست مرات فقط طوال العقدين الأخيرين من الزمن. الناتج يعني أن النخب الوزارية من رأس الهرم على سدة القرار العربي في هذه الفترة المحدودة من الزمن قد تصل إلى أربعة آلاف وزير. وبذات الافتراض فإن الجهاز التنفيذي في مفاصل القرار السيادي في هذا العالم العربي، وفي دورات تغيير وإحلال لعقدين من الزمن قد تناهز الخمسين ألف فرد، وهنا سأعود إلى الخبز من العجينة. ألا تمثل هذه الأعداد الألفية ولو على المعدل المقبول شيئاً من لحمة هذه الشعوب التي أتت منها واختيرت من بينها؟ أليس الخبز في شيء منه قطعة من ذات العجينة؟ ألا تمثل هذه النخبة الهائلة في الأعداد من الذين وصلوا إلى سدة القرار شيئاً من ثقافة هذه الشعوب؟ أليسوا هم البيضة التي تخرج من رحم الدجاجة فلماذا لا تكون الدجاجة خراجاً من البيضة؟ سأعترف أن سقوط الأنظمة تحت ضغط الجيل الجديد جزء أساس من الحلول ولكن الجوهري في هذه الحلول يكمن في الثقافة السائدة التي أسماها المفكر السعودي، إبراهيم البليهي، بنية التخلف. وفي كتابه المثير يستعرض البليهي حصون هذه الثقافة وهو ينبه بكل الشواهد والبراهين أن مفعول هذه الثقافة لا يمشي في رقم مختلف خلف الحضارات الكونية السائدة في عالم اليوم، بل في الاتجاه المعاكس له. هو الكتاب الذي يصح بامتياز لأن يكون المقرر الجامعي الإلزامي لأنه من وجهة نظري أول كشف راصد لهذه البنية المتماسكة من ثقافة الخذلان السائدة. وبالموازاة، أقف مع الحوار الطويل لأمين عام الأمم المتحدة الأسبق، بطرس غالي وهو يقول بالحرف الواحد: إن الضربة الصادمة التي لم يكتشفها شباب الثورة بعد، أن العلة الكبرى تكمن في الشعوب وفي الثقافة المستشرية إذ كيف يمكن لهذه – اليوفوريا – من الآمال التي لا وقود لها سوى الحماس، أن تستوعب حين تفيق على الواقع أن 60% من الشعب تحت طائل الأمية المطلقة وأن ذات الشعب لا يمكن له الحياة إلا على أقل من 6% من مساحة خريطة جافة ومحدودة الموارد ولن يقدم لها أي نظام بديل مهما كان غير النوايا الحسنة. القصة برمتها هي تغيير هذه الشعوب بصدمتها في ثقافتها السائدة لأن هذه الثقافة، ووحدها، هي المسؤولة عن الاستبداد والفساد مثلما هي مسؤولة عن غياب روح الاستخلاف في هذه الأرض بالبناء والعمران والتنمية. وفي لقطة ثالثة يشير الكاتب، خالد القشطيني، لصورة لافتة عن تظاهر ثلاثة وعشرين عراقياً في شارع الرشيد ببغداد احتجاجاً على قرار الحكومة بقفل دور الفنون والمسرح في ذات الأسبوع الذي احتشد فيه الملايين يرفعون كل الشعارات الحزبية وهم يذهبون في مناسبة إلى العتبات المذهبية المقدسة، متسائلاً عن مكان الخلل في الفارق المخيف ما بين الأرقام في هاتين التظاهرتين. وسأعيد اليوم، أسفي على ما سبق وكتبته من قبل من أن النسبة الكاملة من طلاب قاعتي بالجامعة يعرفون أسامة بن لادن وأن طالباً واحداً من بين ما يقرب الخمسين لم يعرف ماذا عمل أحمد زويل وما هو تخصصه وما هي القيمة المضافة التي أضافها لمجمل الحياة الإنسانية في الكيمياء الفيزيائية؟! ومن المؤسف بمكان أيضاً أن أستاذاً جامعياً واحداً من كل جامعات العالم العربي لم يستطع في العقد الماضي كله أن يصل ببحثه الفردي أو المشترك إلى ذروة سنام النشر في مجلتي – nature – أو – scientist -. هذه الحقائق البينة هي تفصيل الداء في بنية التخلف. جربنا من قبل كل أنماط الثورات، وكل ثورة تلعن سابقتها وترمي عليها ثوب الأخطاء وتعطي الوعود البراقة بأمل جديد مختلف. أعطينا هذه الثورات المجيدة عقوداً من الزمن وأدخلنا في هياكلها الإدارية كل شرائح الشعوب. لم يتغير شيء على الإطلاق، وبالعكس كان التغيير الوحيد هو السالب. غيّرنا جلّ الأنظمة حتى قتل في عواصم العرب 17 زعيماً في أربعة عقود. لم نغير هذه الشعوب بعد.