العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي علاقة مشاركة في الأساس قد تبدأ من الأعلى إلى الأسفل أي من رأس الهرم الاجتماعي وهو الحكم، أو بمعنى أشمل السلطة بأي شكل من أشكالها بحيث يكون التأثير أقرب إلى نوع من الفرض الاجتماعي، أو لنقل أقرب إلى السلطة القمعية حتى لو كانت تنويرية الطابع بحكم أنه جاء سلطويا ومن غير إرادة شعبية حقيقية، أي أن النخب السياسية والدينية والثقافية هي التي تتخذ القرارات وما على القاعدة العريضة في المجتمع إلا التسليم والقبول وهو مجمل شكل الحراك السياسي في العالم العربي، وعليه تعرف الرجل العربي منذ ابتداء تاريخه، وعلى مدى ذلك التاريخ كاملا.
في المقابل، وهو شكل معاكس تماما، قد تبدأ هذه المشاركة بين الحاكم والمحكوم من قاعدة الهرم الاجتماعي إلى رأسه، وهي الإرادة الشعبية ومدى تحقيقها فعلياً على أرض الواقع، وهنا يصبح لدى رجل الشارع قيمة حقيقية بعد أن كان قيمة صفر أو قيمة مفعول بها، وليس قيمة فاعلة لكن مع القوة الاجتماعية الضاغطة وهي قاعدة الهرم هنا فإن الموازين تصبح مختلفة هنا فالمفعول به سابقا يمكن أن يكون فاعلاً في الحراك الاجتماعي والسياسي وغيره.
تنشط قوى النخب السياسية والدينية والاجتماعية على حساب المجتمع نفسه في غياب فاعلية القوى الاجتماعية الأخرى أي لا قيمة للنخب إلا في غياب أو تغييب قيمة المجتمع أو غياب فاعلية قاعدة الهرم وإلا ما كانت نخباً من الأساس. تبني هذه النخب وخصوصا السياسية منها نخبويتها من محاولاتها وضع المجتمع تحت طائل المفعول به حتى تضمن الولاء المطلق لها دون أن تفكر إلا نسبياً في صالح المجتمعات، لكن بما لا يتعارض مع أيديولوجيتها الفكرية والسياسية وبما يحقق لها مزيداً من الهيمنة على المجتمعات، فتصبح هذه النخب هي المتحكمة بمصائر الشعوب، حتى ولو كان تحكماً متخلفاً يقود إلى التراجع في حين كان من المفترض أن يقود التاريخ بها إلى الانفتاح وإلى مزيد من الديموقراطية حسب حركة التاريخ التي يشهدها العالم الحديث.
إن غياب فاعلية المجتمع هو أحد أوجه هيمنة النخب السياسية على مجريات الأمور في تلك البلدان. غياب الفعالية هذا يجعل من المجتمع لا انتمائية لديه للدولة المتسلطة، ولذلك فسرعان ما ثارت الشعوب على حكامها متى ما ترى الفرصة المواتية فعل ذلك لأنها لم تكن تشعر بذلك الانتماء تجاه ذلك الحاكم أو تجاه ذلك النظام وربما استعانت الشعوب بالمستعمر الخارجي كبديل عن المستعمر الداخلي لأن المصير الذي قاد به بعض الحكام العرب شعوبهم إليه كان مصيرا مدمراً أكثر منه مصيرا بنائياً ولنا في الحالة الليبية أقرب مثال على هذه الاستعانة هرباً من سفاهة القذافي.
وعي الشعوب تجاه مصيرها مقلق جداً للنخب السياسية لأنه وعي سوف يضع هذه النخب تحت طائل المساءلة القانونية والأخلاقية ولأن هذه النخب تعرف في نفسها أنه لم تقدم إلا مزيدا من الديكتاتورية لدى شعوبها فمن الطبيعي أن تقود المجتمع كله إلى جحيم المعارك الضارية كما تفعل سورية حالياً. حالة التدمير التي تصنعها الديكتاتوريات العربية هي حالة تثبت أنها لم تكن تضع المجتمع إلا في المراتب المتأخرة وأنها لم تكن تبحث إلا في صالح نفسها وعلى المجتمع السلام. هذا التفكير يصنع معادلة أثبت التاريخ فشلها: (مزيداً من الهيمنة يعني مزيداً من السلطة المطلقة). هذا الوضع لم يعد وضعا صالحا وتم تغييره في الثورات العربية الحالية. بعض الساسة العرب مازالوا خارج منظومة التاريخ بحيث يظنون أنهم هم الأصلح للشعوب. قبل فترة صرح علي عبدالله صالح أن بقاءه على رأس هرم اليمن غير السعيد هو صمام الأمان للمجتمع لأنه سوف يدخل في حروب أهلية لن ينفك منها إلا بحل وحيد وهو ألا تكون هناك ثورة على نظامه. بعض الأنظمة العربية تظن أن الحق المطلق هو في اتباعها. حالة التجهيل التي يحاولها الساسة العرب تجاه شعوبهم هي محاولة أخيرة لإبقاء الشعوب تحت خط التفكير الصائب وهو التفكير الذي يحدد صوابيته الحكام، والذي ينص على الطاعة العمياء في كل شيء.
الملاحظ لحركة المجتمعات أن الشعوب مع الوقت تزداد معرفة بحقوقها والساسة يزدادون جهلا في تفعيل تلك الحقوق لتضمن بقاء المجتمع تحت هيمنتها، وهذا أصبح مقلقاً بالنسبة للساسة العرب ولذلك فسد باب الوعي هو الحل الوحيد هنا لضمان الاستمرارية. الشعوب بدأت تعي أنها هي المعنية أولا وأخيرا في سياسة الحاكم العربي، وأنها هي الأصل في الحراك الاجتماعي، وتريد هنا أن تصحح من مسارها وليس من حل إلا في خيارين لا ثالث لهما: إما مزيدا من الإصلاح يضمن للشعوب الكثير من حقوقها، أو الثورات التي تطالب برحيل الأنظمة الديكتاتورية وإسقاطها.
وعي الشعوب يزداد شيئاً فشيئاً وتأخر بعض الساسة عن فهم هذا الوعي يزداد تأخراً كل مرة، ولذلك نجد محاولات إغلاق منافذ هذا الوعي هو الحل الوحيد. أحد أهم منافذ هذا الوعي هو التقنية الحديثة المتصلة بشبكة التواصل الاجتماعي والإنترنت والذي ثبت جهل الحاكم العربي فيها وبمدى فاعليتها في تحريك الوعي إلا متأخراً فسعى إلى إغلاقها أو مراقبتها مراقبة أمنية مشددة بدلا من الاستفادة منها في معرفة مطالب الشعوب وتحقيق الرخاء لهم. الجهل بحركة المجتمع يجعل من بعض المجتمعات أكثر رقيا في التفكير من حكامها وهذا ما أثبته نجاح الثورات العربية في الفترة الأخيرة وثبت أن الحكم لم يكن يعي ما يدور حوله مطلقاً، ولذلك مازال يتصرف كما لو كان يعيش في كهوف العصر الحجري.