عندما يتملكك الضجر أو تشعر بالملل، تندفع إلى رحابة الماضي وحلو الذكريات ملجأ تخرج إليه من ضيق الراهن وقسوة الحال. وكانت محطتي مدينة نورمان في ولاية أوكلاهوما بالولايات المتحدة، إذ كنت حينها طالبا في كلية الهندسة. مدينة صغيرة، أو قرية جامعية، إن شئت، لا يتجاوز عدد ساكنيها أربعين ألفا، وكان ذلك قبل أكثر من ثلاثين عاما. هناك بين رعاة البقر في أوكلاهوما، حيث ما زال وقتها مألوفا أن ترى مظاهر من أفلام الغرب الأميركي، أناسا يعتمرون القبعات الكبيرة والأحذية المزودة بتروس من الخلف، ويمضغون التبغ الأسود المعبأ في صفائح معدنية. وكان الأميركيون، من سكان المدن الكبيرة والولايات الشرقية، يتندرون بقصص التخلف (بمقياسهم) في هذه الولاية وأمثالها في الوسط الأميركي.

سألت يوما، وأنا هناك، أستاذ هندسة الطرق وإدارة المواصلات، لماذا ودائما، وفي الليل بوجه خاص، لا أكاد أقترب من أي إشارة مرور في المدينة إلا وتضيء الأخضر قبل أن أقف تماما، وتتيح لي فرصة مواصلة السير؟ وقتها كانت هذه من التقنيات الحديثة، فأطلق عليها اسم الإشارات الذكية! وشرح لي كيف تعمل... أبدا لم تكن بذلك الذكاء، فكل ما في الأمر أن هناك حساسات ترصد حركة السير على التقاطع وتنظم المرور وفقا لبرنامج غذيت به الإشارة مسبقا، تماما كما يفعل جندي المرور المتغيب أبدا، عند مدخل الجامعة الغربي. هذا على بقعة على الأرض لا يعرفها أحد، ومنذ عقود، ولابد أن الأمور تطورت عن ذلك بكثير في نورمان، ونحن ما نالنا منها إلا ساهر للجباية والمكوس. لقد كان ذلك من ذكريات الماضي وحديث النفس، عندما أصابني الملل وأنا أنتظر، بعد منتصف الليل، الضوء الأخضر من إشارة تقاطع شارع الحمراء مع شارع الأندلس التي يبدو أنها كانت تبعد عني أميالا وأنا على طريق الكورنيش. مضت عشرون دقيقة وحركتنا أبطأ من سير السلحفاة، سألت نفسي: ماذا يفعل سائق سيارة الإسعاف أو الإطفاء، وماذا تفعل من جاءها النفاس وهي في نزهة على الكورنيش؟ العجيب أن الاختناق لم يكن إلا على طرف واحد من التقاطع، بل لا تكاد ترى سيارة تأتي من الشرق، وبالرغم من ذلك، تبقى الإشارة مضيئة "لهم" بالأخضر ونحن نتقلب في لهيب اللون الأحمر. لا أدري لماذا لا نزال نوظف هذه الإشارات الغبية؟

ومن يسكن جدة أو زارها، يعرف أن هذه ليست أزمتنا المرورية الوحيدة فيها، فالمرور على كل الشوارع فيها، إلا ما ندر، فوضى تجاوزت كل المعايير، حتى أصبح الواحد منا يحسب لخروجه من البيت ألف حساب، وإن هم، فعليه رسم خريطة الذهاب والإياب قبل أن يقرر البقاء في بيته سالما معافى. كم من مصلحة تعطلت لهذا السبب؟ وها هي الإجازة الصيفية على الأبواب، ويا مجير.

صحيح أنه لا وجه مقارنة بين جدة ونورمان، زد على ذلك عامل الزمن، لكن، رغم ذلك، هناك ما يمكن أن نتعلمه منها، ومن مدن أخرى غيرها. على شارع الملك عبد العزيز لابد أن تقف في كل تقاطع لو التزمت السرعة القانونية، حتى ولو لم يكن على الطريق معك أحد. من السهل جدا ومن الممكن تزويد التقاطعات بحساسات ترصد الحركة، وبرمجة الإشارات الضوئية، بحيث لا يقف من يلتزم السرعة القانونية إلا في الإشارة الأولى، خاصة في آخر الليل أو صباح الجمعة، عندما تخف حركة المرور. فهذه لم تعد تقنية ذكية.

وحتى لا نلقي بكامل اللائمة على المرور وجب أن أذكر أن الجميع شركاء في هذه الأزمة، فهناك من لا يتقيد بأنظمة المرور ولا يحترم آداب القيادة، تجده في كل مكان لا ينبغي أن يكون فيه، على كتف الطريق، أو معترضا في التقاطعات، أو معاكسا اتجاه السير، أو أنه يتهور في قيادته. وهناك من يقف أمام المحلات التجارية في صف مزدوج أو ثلاثي، وبشكل تشعر معه بالغثيان، لا يزعجه تأخير الآخرين ولا تعطيل حركة السير، ولا يبدي تقديرا لمشاعر الناس. والغريب أن هناك من يذهب للصلاة ويفعل ذلك قريبا من المسجد، كي لا تفوته الجماعة، وبعدها يشتغل بالسنن، والناس في الشمس ينتظرون خروجه. ثم يخرج باسما يلوح بيديه وكأنه لم يفعل شيئا... لقد تعودنا هذا وما عاد من المنكرات! وتضيف الشوارع المتهالكة والمشاريع المتداخلة على خلفية الصورة ليكتمل المشهد.

أختم بما قاله لي أحد أساتذة علم النفس بأن طريقة قيادتنا وسلوكياتنا على الطريق عدائية بشكل يستوقفك، وأردد كذلك ما قاله صديق من شركة أرامكو السعودية بأن الشركة تقدم دورات لموظفيها يتدربون فيها على القيادة الدفاعية، ولهذا معنى! فأنت في معركة، وإن لم يذكروا الأعداء، أو هكذا تراها أرامكو! لقد اختصر أستاذ علم النفس الحديث بقوله إننا مجتمع مأزوم، وإنما هذه شيء من أعراض التأزم.