اتخذت الولايات المتحدة الأميركية قرارها الاستراتيجي بالاعتراف بدولة إسرائيل الناشئة عام 1947بعد أن تردد الرئيس الأميركي ترومان طويلاً في ذلك بسبب ضعف الاهتمام الأميركي بالمنطقة عموماً وانخفاض العائد السياسي المحتمل من هذا الدعم بالإضافة إلى معارضة الكونجرس لهذا الاعتراف غير العادل بالنسبة للفلسطينيين، إلا أن ترومان حسم موقفه بعد أن زاره رئيس إسرائيل حاييم وايزمان آنذاك في واشنطن فرفض لقاءه مراراً رغم توسلات وايزمان وتشفّعه بأصدقاء الرئيس ومعارفه فوافق ترومان أخيراً بعد أن عرف أنه مريض ومسن، وكانت نتيجة هذا اللقاء أن أعجب ترومان إعجاباً شديداً بشخصية وايزمان وقرر الاعتراف بإسرائيل. هكذا نقضت أميركا موقفها المشرف (نسبياً) من حركات الاستقلال العربية التي أعقبت الاستعمار البريطاني والفرنسي عندما كانت القوة العظمى الوحيدة التي صوتت على حق الشعوب العربية في تحديد مصيرها وانتخاب زعمائها أعقاب الحرب العالمية الأولى، في حين كان الفرنسيون والبريطانيون يرون استمرار وصايتهم الاستعمارية وتنصيب الزعماء الذين يصنعونهم في لندن وباريس. تحولت أميركا منذ ذلك العام من قوة عظمى محايدة إلى منحازة، وهو سلوك سياسي متوقع منها بعد الحرب العالمية، إذ انحرفت بوصلة اهتماماتها من الشأن الداخلي إلى الخارجي بسبب تحولها إلى القوة العالمية الأكبر في بعد انهيار أوروبا أثناء الحرب، حتى لحق بها الاتحاد السوفيتي بعد ذلك ليشكلا معاً قطبي العالم الرئيسيين.

عربياً، أصبح الحضور الأميركي ملوثاً بهذا الدعم غير المبرر، رغم كل الأدوار البارزة التي لعبتها في ساحة المنطقة ورغم براءتها من التاريخ الاستعماري واستمرار مساعداتها التنموية المستمرة لدول عربية كثيرة، إلا أن كل هذه الجهود الأميركية ظلت دائماً مشوبة بالسياسات الإسرائيلية حتى قلّ أن ترتكب إسرائيل فعلاً لا يعدّ العرب أميركا شريكة فيه. ولما نشبت الحرب الباردة، انحاز الاتحاد السوفيتي لبعض الدول العربية نكاية في أميركا وطمعاً في تصدير الشيوعية إليها، وقام بدعم تلك الحركات الهجينة القومية/الاشتراكية في العالم العربي بأشكال عدة جاء أثر بعضها كارثياً على المنطقة، مثل انقلابات العسكر المشؤومة وتعطيل التنمية الاقتصادية وتخدير الشعوب بالشعارات الاشتراكية، بينما جاء بعضها مفيداً نسبياً بتعطيل هجرة اليهود الروس إلى فلسطين، وطرح حل الدولتين في الأمم المتحدة، بل تجاوزوا ذلك إلى عرض إقامة دولة يهودية على الأراضي السوفيتية في جنوب أوكرانيا وشبه جزيرة القرم على البحر الأسود فرفض اليهود ذلك.

استمر الصراع الأميركي/السوفيتي حاضراً في العالم العربي، وانقسمت الدول العربية في انحيازاتها السياسية بين الغرب والشرق، تبعاً لرهانات سياسية كانت أقرب إلى المقامرة مع صعوبة التنبؤ بالمآلات الممكنة لهذا الصراع، ولكن السبعينات الميلادية رجّحت كفة الحضور الأميركي في العالم العربي، ويمكن تفسير ذلك على ضوء سياسات الانفتاح والتنمية التي يمثلها الحضور الأميركي مقابل سياسات الانغلاق والكبت عند السوفيت، ولكن بالتأكيد ثمة مجال لتحليلات أعمق حول سبب تراجع الاهتمام السوفيتي بالمنطقة عموماً إزاء الاهتمام الأميركي المتزايد، والذي حوّل الأميركييين إلى حليف استراتيجي لأغلب دول العالم العربي (وإسرائيل في نفس الوقت!)، بينما تراجع الحضور السوفيتي إلى مستوى الدعم اللوجيستي لأحزاب ضعيفة ومجموعات مطاردة، انقلب أغلبها عن الحلف السوفيتي فور وصوله للسلطة واضمحلّ بعضها الآخر بسبب المطاردة السياسية من جهة والتعارض الديني للشيوعية الميالة للإلحاد مع الثقافة العربية من جهة أخرى.

تعرض العالم العربي لنصيبه من الجراح والآلام المتوقع أن تتعرض لها أي دولة يلقيها حظها العاثر في طريق قطبين يتصارعان على أرضها. ورغم أن هذه المعاناة لم تكن دموية مثل المصير الفيتنامي إلا أنها في دول عربية كثيرة كانت رجعية مثل المصير الكوبي. تعطل الكثير من مصالح الشعوب بسبب انجراف قادتها وراء لعبة التحالفات القطبية، ومحاولة تثبيت السلطة، ورفع الشعارات الخادعة، وتمكين الحضور الأجنبي، على حساب العمل الوطني والهم الشعبيّ والإصلاح الديموقراطي. وفي ظل تلك التبعيّة العربية لأقطاب العالم الكبرى، ترعرعت إسرائيل واشتدّ عودها، لأن جلّ عملها السياسي كان منصباً على (تأسيس وطن) بينما كان العمل العربي السياسي منصباً على (تأسيس عروش). ولا مصداق لتلك الحقيقة التاريخية المؤسفة سوى مراجعة مقارنة آلية انتقال السلطة في إسرائيل من رئيس إلى رئيس مقارنة بآلية انتقالها عربياً، فالمواطن الإسرائيلي يمرّ عليه منذ ولادته إلى وفاته ما معدله 13 رئيس وزراء يتداولون السلطة (سلمياً) مقابل 3 رؤساء فقط يشهدهم المواطن العربي طيلة حياته في الدول العربية التي تدعي الديموقراطية، ويتم تداول السلطة فيها (انقلاباً أو وراثةً أو ثورةً).

إلا أن الممارسة السياسية التي اتفق فيها بعض العرب والإسرائيليون معاً في المرحلة السابقة هي إدمان الاستقطاب السياسي. كلاهما بذل جهده لإقناع الولايات المتحدة بأن وجوده في المنطقة استراتيجي وحاسم، وعزز من تلك النزعة ما شهدته الدول التي شذّت عن هذه الممارسة من تدهور سياسي واقتصادي، بينما استمرت الدول التي تضع التحالف الاستراتيجي مع أميركا، أو غيرها من الدول الأوروبية العظمى، تحقق أهدافها المنشودة من ذلك، سواءً كان ذلك الهدف هو التنمية الاقتصادية أو الدعم العسكري، وسواءً انعكست هذه الأهداف على الدولة سلباً أو إيجابياً، فقد كرست في نهاية المطاف تقديم التحالف الاستراتيجي على غيره، وحتى و إن تم تبريرها على أن هذه تؤدي إلى تلك في بعض الحالات. ولم تسلم إسرائيل من هذا الخطأ أيضاً بتغليبها أيديولوجيا الصهيونية على نظامها الديموقراطي المختل، والعنصرية الدينية على العدالة الاجتماعية، ولو أنها عاملت مواطنيها العرب بعدالة ومساواة مع مهاجريها اليهود لربما (وهذا يصعب التنبؤ به)، ربما تحولت إسرائيل إلى معجزة تعايش ديني وعرقيّ يجعل موقفها العالمي الآن أقل حرجاً، وتطبيعها مع العرب أقل استحالة.

ولكن شيئا ما يتغيّر اليوم. ومن المبالغة في الطموح التحليلي محاولة التنبؤ بكنهه. ما زالت أميركا هي القطب الأقوى، ولكن ربما لعبة التحالفات مع السلطة بدلاً من استمالة الشعوب لم تعد تستهويها، وربما أن الانتشار الاقتصادي أصبح مقدماً على الاستقطاب السياسي. وبغض النظر عن اتجاه هذا التغيّر ذي الإرهاصات الواضحة فإن البدء في صناعة كيانات وطنية منصرفة عن لعبة الانحيازات القطبية والمواقف الإقليمية، ومشغولة بواقعها التنمويّ والاقتصادي والإصلاحي هو خيار الحكماء.