اليومي الراهن هو الحياة، أو هو كذلك بإشارات النداء والتلويح تتسلّل إلى الوعي. شغب الحركة المندلعة في الناس والأشياء. المشهد الذي تنغمر فيه العينان وتغطس سائر الحواس. اليومي واقعةُ اللهاث، والاندراج في إيقاعٍ مجلجل ينهب مخزون الطاقة للوفاء بما يجب وبما ينبغي. ثمّة سطح، ودرجٌ نازل.. غير أنّ هذا الدرج لا يقود إلا إلى أسطح شبيهة، توحي بأن لها أبعاداً وتغري بثغرات تنفتح مع كل خطوة نازلة، والمحصّلة أنّ السطح ذاته يُستعاد وإنْ باسمٍ آخر وبتلوينٍ يوقعُ في الوهم طيَّ المسافة والولوج في العمق.
البانوراما التي يطرحُها اليوميّ بادّعاء الحياة، يحاول الشعرُ تصديعَها، وثَلْمَ مرآتها بكشط زئبقها في أكثر من مكان. العينان المفتوحتان على سعة المشهد عمياوان شأنَ نشرةٍ إخباريّة تزرع في ذهن المشاهد الإحاطةَ والمتابعة، فيما المياه تعبر من تحت الجسر. أليست هذه أشبه بعمليّة تخدير؛ عينان صاحيتان والجوارح تحت رحمة المشرط!.
يخرج الشعر على اليوميّ وإخباريّته، لأنّ هناك ما هو أبعد من الخبر المحكوم بخارجيّته ورتابته المخدِّرة. هناك انشقاقٌ وانشطار وتبادل في مواقع هذا اليوميّ تقودُهُ عينُ الشعر. شحمُ المتنِ يذوب.. يتسرّب.. تخلو الساحة منه. ينهض الهامش والظلّ والعابر في عمليّة انصهار وتجميع إلى صلابةٍ بلّوريّة، يتراءى منها الهاربُ الزّائلُ المراوغ.
اليومي الذي كان عاما وغفلاً من الدلالات، انحفرتْ مشهديّته وتجوّفتْ إلى زاويةٍ صغيرة تعمرها الذاتُ بخصوصيّة شخصيّة انصرفت من الضوضاء، وذهبَت عنها الضجّة وطنينها المربك للتأمل واستخلاص ما يخصّ وما يعانق الداخل وحده.
في يومنا السيّال نعبر وتعبر بنا مئات الأحوال والمشاهد، تتفلّت منّا بهجومها الصاخب المباغت، في عجلةٍ لا تسمح بفرصة المكوث في العين والاستدخال في نَقِيِّ الجوارح. التقاطُ الجذريّ، وتحسّسُ المفارقة التي ينطوي عليها موجُ اليوميّ الهادر؛ هو ما يقوم بها الشعر. يعرف كيف يستلّ الخيط الدقيق ويعيد النسج؛ يصنع الدهشة والسحر والطرافة على النحو الذي نجده في نصّ "بقايا" من ديوان "رغوة تباغت ريش الأوراق" للشاعر إبراهيم الحسين:
(عامل النظافة
ببذلته الصفراء،
بمكنسته المشطيّة،
نظرته الغامضة..
كمن يتسكّع في الشارع
يجمع العلب المعدنيّة،
الكارتونيّة،
يلمّ القراطيس.
عامل النظافة
ببذلته وحديدِ
نظرته؛
كيف تغاضى
عن داخلك؟!).