لو بحثنا لدى العلماء عن عبارة بمثل قيمة ودلالة كلمة الشافعي الأثيرة: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، لما وجدنا كلمةً تضاهيها جمالاً. تعني مقولته ببساطة: أن رأيي الذي أطرحه هو نابعٌ مني ومن خلال بحثي، من خلال رؤيتي لزاوية الحق التي أبحث عنها. كما أن رأيك أيضاً وجيه دائماً، لا يمكن تحقيره أو إهماله، لأن كلا الرأيين "يحتملان الصواب"، فلا فضل لرأيٍ على آخر. كل رأي يطرح يمكن مناقشته واحترامه إن لم نقتنع به، من غير تحقيرٍ أو تسفيه، أو سخريةٍ أو تشويه. هذه هي العبارة الجميلة الدالة التي طالما رددناها لكن تطبيقها صعب، ووقوعها على الأرض شبه مستحيل مع الأسف، فلو حققناها لوصلنا إلى مصافّ الأمم المتحضرة التي لا تحتقر من الآراء شيئاً!
والتعددية لا توهب من شخصٍ لآخر، بل هي الحق الطبيعي الذي يفرضه التنوع في الأفكار والأفهام، فالناس في رؤاهم ليسوا سواسية، ولو أن كل البشرية توحدت على رأيٍ واحد، وعلى فكرة واحدة لفسدت الأرض. قيمة الحياة وجمالها في التعدد والتنوع، وهل يجذبنا إلا المختلف؟!
إن فكرة (توحيد آراء الناس) أحد أبرز الأفكار التي تفرخ العنف، وتؤجج الكراهية بين المجتمعات. وما الانحياز الطائفي إلا (قبليّة جديدة) فالطائفية في لبنان، تشبه الانتماء القبلي في اليمن. قد تجد في لبنان بعض المفكرين الذين لا يؤمنون بدين أبداً، لكنهم حين يأتي الانتماء الطائفي سرعان ما تلهج ألسنتهم بالدفاع عن الطائفة والحديث عنها، وهو سلوك لا يختلف عن المدافع عن قبيلته بشيء.
إن الاعتراف بنسبية الحق الذي نملكه، أو "الاحتمال" الذي يعنيه الشافعي هو ما يرسخ العيش المشترك بين الناس، فالقبيلة التي أنتمي إليها ليست أعظم القبائل، وكذلك الطائفة والرأي والمذهب، لكن الانتماء لرأي يأتي بعد البحث والتنقيب، ومن الكتب المهمة التي تبحث في التعددية الدينية والفكرية كتاب عبد الكريم سروش: (الصراطات المستقيمة)، فقد ضم استدلالات وأفكارا مهمة.
قال أبو عبدالله غفر الله له: إن كل ظاهرة مثل الزجاجة ذات الزوايا المختلفة، كل منا ينظر إلى ضوء مختلف كما يعكسه الضوء الموازي للزجاجة، وادعاء امتلاك الحق المطلق الذي لا ينافسنا عليه أحد؛ يعني أن تتحول المجتمعات إلى وقود ينتظر أي شرارةٍ تضطرم وتحرق كل شيء، كما هو حال الطائفية قي لبنان حيث تتنازع الطوائف على الحقيقة وعلى السياسة أيضاً!