يحاول الناقد المغربي حسن المودن من خلال دراساته تجريب منهج نفسي يتميز عن النقد النفسي التقليدي في منطلقاته ومقاصده وإجراءاته المنهجية، ويطمح إلى تطبيق الأدب العربي على التحليل النفسي، ويدعو إلى إعادة النظر في ثنائية الأدب والتحليل النفسي وإعادة مساءلة العلاقة بينهما، وإبراز مدى ملاءمة النقد النفسي في سبر أغوار النفس البشرية.

وقد حاول الناقد في كتابه "الرواية والتحليل النصي: قراءات من منظور التحليل النفسي" الذي يتناول مجموعة من الأعمال الروائية العربية، أن يتحرر من المنهجية الصارمة والمزاوجة بين مجالات نقدية متعددة، وناقش أهم أساليب وأشكال التحليل النفسي للشخصيات التخييلية في الرواية العربية، واستنتج الأبعاد النفسية المهيمنة في المتن الروائي مستعيناً بالسرديات والتحليل الموضوعي.

في هذا الحوار يكشف لنا هذا الناقد المعروف بإسهاماته النقدية الجادة، كيف يكتب الروائي الواقع النفسي، وما أساليبه ومناهجه في السرد والكتابة، وما رأيه في المشهد الثقافي المغربي في غياب الدعم والاعتراف، وفي وجود صعوبات كبرى تقف في وجه تقديم النصوص الإبداعية الجديدة.

كيف ترى العلاقة بين التحليل النفسي والأدب من خلال كتابك "الرواية والتحليل النصي"؟

حاولت في كتابي إعادة قراءة العلاقة بين الأدب والتحليل النفسي بشكل يعيد مساءلة بعض المسلمات راميا إلى إعادة النظر في التصورات السائدة لهذه العلاقة التي مازالت تنال الكثير من العناية والاهتمام، ومعتمدا على إعادة بناء العلاقات القائمة بين فرويد، والتحليل النفسي، والأدب، بما يسمح بفتح آفاق جديدة أمام فهمنا للنفسي والأدبي وما بينهما من علاقات.

واعتمدت في هذا الكتاب على دراسة للناقد الفرنسي جان بيلمان نويل، تحت عنوان "التحليل النفسي والأدب"، الصادرة باللغة الفرنسية سنة 1978، والتي قمت بترجمتها إلى اللغة العربية، سنة 1997 عن المجلس الأعلى للثقافة بمصر، وأهمية هذا الكتاب تكمن في كونه أعاد قراءة فرويد، وأعاد فحص العلاقة بين التحليل النفسي والأدب بطريقة تجمع بين التاريخ والنقد، بمعنى أنه استحضر تاريخ هذه العلاقة من سيجموند فرويد إلى جاك لاكان، ولم يكتف بالعرض التاريخي قدر ما قام بقراءة تاريخية تقويمية، انتهى من خلالها إلى تقديم منهج جديد في النقد النفسي سماه: "التحليل النصي" يسمح بالانتقال من الاهتمام بمؤلف العمل الإبداعي إلى تركيز النظر على العمل الأدبي نفسه.

واعتمدت أيضا على دراسة جريئة صدرت سنة 1998 تحت عنوان "فرويد شاعر اللاشعور" لليديا فليم، وهي توضح أن فرويد لم يكن مجرد طبيب أو عالم، بل إنه أديب أو كاتب بالمعنى المعاصر، وتندرج هذه الدراسة ضمن عدد من الدراسات المعاصرة التي تحاول تصحيح النظر إلى مؤسس التحليل النفسي، كما اعتمدت على دراسة للكاتب الفرنسي بيير بيار صدرت سنة 2004 تحت عنوان يعد سؤالاً جريئاً وانقلابياً: "هل يمكن تطبيق الأدب على التحليل النفسي؟" فإذا كان المألوف أن يناقش النقاد والمهتمون مسألة تطبيق التحليل النفسي على الأدب، فإن المحلل بيير بيار يقترح بالكثير من الجرأة قلب الأدوار وإعادة بناء العلاقات والسخرية من الأذهان التي تستكين إلى مسلماتها.

إذاً فهناك علاقة حميمية بين التحليل النفسي والأدب، وكما بيّن جان بيلمان ـ نويل هي علاقة أرادها فرويد نفسه الذي كان يتغذى من قراءاته الأدبية، وقد بينت دراسات أخرى أن مؤسس التحليل النفسي كان يتغذى من قراءاته الأدبية ويحلم في الوقت نفسه بالشيء الأدبي، وهذا ما يقصده كلود ميار عندما قال: يوجد الفن داخل التحليل النفسي، إنه أحد أبعاده وأحد تصوراته، ويقول جان بيلمان نويل: إن التحليل النفسي ليس علما فقط، بل إنه أفضل من العلم، لأنه فنّ تفكيك حقيقة ما في كل القطاعات الملغزة في التجربة الإنسانية، كما يعيشها الإنسان، أي كما يحكيها لنفسه أو للآخرين. ففي مؤلفات فرويد ليس هناك فصل بين الأكاديمي والأدبي، بل هناك زواج بينهما، ومؤسس التحليل النفسي يعلمنا كيف يمكن للاستاتيقا أن تكون منهجا، لأنه يزاوج بين العلم والفن، بين النظرية والأوتوبيوجرافية، بطريقة إبداعية يمتزج فيها هي الأخرى الاندفاع والتعقل، التحقيق والتخييل، فالطريق التي تقود المحلل النفساني إلى اللاشعور تمرّ عبر لعبة من الكلمات والترابطات التي تنسج السرد، وتتنقل بشكل مدهش من مجال إلى آخر، من المرئي إلى المجرد، من اليومي إلى النظري، من العلم إلى الشعر.

كيف يكتب الروائي العربي الواقع النفسي؟

حاولت في دراستي لروايات الطيب صالح الصادرة تحت عنوان "لاوعي النص في روايات الطيب صالح" أن أركز لا على المضامين النفسية، بالرغم من أهميتها، بل على الأشكال والمناهج التخييلية التي يوظفها الروائي من أجل تشخيص الواقع النفسي لشخصياته، واستطعت أن أكشف أن أهم ما يميز رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" مثلا ليس انشغالها بالآخر الخارجي في إطار قضية الشرق والغرب، بل إنها من الروايات الرائدة التي يعود إليها الفضل في تأسيس الانشغال بهذا الآخر الذي يوجد في دواخل الذات لا في خارجها، وأن الأدب الحقيقي ليس هو ما يتحدث عن الآخرين، بل هو الذي يتحدث عن الآخر فينا. وهذه المهمة الجديدة للأدب الروائي العربي فرضت طرائق ومناهج جديدة في الكتابة والتخييل: المحكي النفسي بمختلف متغيراته، المونولوج الداخلي بمختلف أشكاله... وحاولت أن أكشف في قراءات لاحقة أن الشكل الروائي قد يكون أقوى دلالة في التعبير عن الواقع النفسي من مضمون النص الروائي نفسه، خاصة عندما يتعلق الأمر باقتصاديات التفكيك في البناء الروائي، أو باقتصاديات الحذف والصمت أو بالتضعيفات التخييلية والمحكيات المرآوية.

ما رأيك في المستوى الأدبي للرواية المغربية الجديدة؟ وما خصائص الجدة فيها؟

الجديد في الروايات التي صدرت في نهاية التسعينات والعقد الأول من الألفية الجديدة هو هذا النزوع إلى التحليل النفسي للأنا كما للآخر، للذات وللشخصية التخييليتين، دون أن يعني ذلك غياب التحليل النفسي في الرواية المغربية للعقود السابقة، فقد لعب مبارك ربيع دوراً هاما في تطوير التحليل النفسي للشخصيات التخييلية بتقنيات وأساليب تعتبر متطورة في الدرس النقدي المعاصر (المونولوج المسرود، المحكي النفسي اللاتلفظي، الأسلوب غير المباشر الحر...)، وفي أكثر من مقالة حاولت الإشارة إلى الدور الذي لعبته رواية محمد برادة "لعبة النسيان" في سبر أعماق الذات بمحكي شعري بوليفوني، وبقدرة خاصة على اللعب وخلخلة تقاليد الكتابة الروائية، وهو الاتجاه نفسه الذي تطوره روايته الأخيرة "حيوات متجاورة"، باستنطاقها حميمية الشخصية التخييلية، وأناها الأخرى، بطرائق لعبية حاولت الإشارة إليها في دراسة خاصة.

وإذا كانت الشروط الموضوعية تفسر لماذا هيمن التصور الاجتماعي الأيديولوجي للكتابة في العقود الأولى من استقلال المغرب، فلاشك أن هناك شروطاً موضوعية تفسر هذا التوجه الجديد نحو مفهوم نفساني للكتابة في العقود الأخيرة من تاريخ المغرب المعاصر: هناك شيء ما بدأ ينكسر منذ أواسط السبعينات أو أواخرها، وتفجّر في التسعينات وبداية الألفية الثالثة. ستصاب الأيديولوجيا كما ستصاب الأنساق الفكرية والتشييدات النظرية الكبرى. وأضحت هناك أزمة عامة تعرفها خطابات اليقين، وهناك عجز في صناعة الأمل واليوتوبيا، وهناك أزمة تعيشها المثل السياسية. ولن تكون هذه التحولات دون تأثير على الأدب، والروائي منه بالأخص.

ومن هنا افتراضي أن بعض الروايات التي صدرت مؤخرا نجحت في أن تدفع الكتابة بعيدا في استنطاق الذات، وأساسا في اتجاه لقاء بالآخر، ربّما لأن الدرس الذي نتعلمه من التحليل النفسي هو أن فهماً أفضل للذات لا يمكن أن يتحقق إلاّ إذا سعينا وراء لقاء بالآخر، الآخر الموجود في الخارج، لكن أيضا وأساسا ذلك الآخر الموجود داخل الذات.

والكتابة في لقائها الآخر، بهذا المعنى، هي ما نجده في روايات مغربية معاصرة للشاعرة الروائية فاتحة مرشيد وللروائي والقاص محمد عز الدين التازي، كما نجده في روايات عربية معاصرة كروايات الروائي السعودي يوسف المحيميد... وما يهمّ أكثر هو كيف تقول الرواية هذا الآخر الموجود داخل الذات.

ما حقيقة ما يقال عن صعوبة النشر في المغرب والمشاكل التي يواجهها الكتاب المغربي في التوزيع؟

أعمال المغاربة غالباً ما تجد فرصة النشر والتوزيع الجيد خارج المغرب في الشرق العربي، وفي بعض الدول الغربية من مثل فرنسا بالنسبة للكتّاب المغاربة الذين يكتبون بالفرنسية. مشاكلنا كثيرة في النشر والتوزيع والقراءة، ولا وجود لسياسات ومؤسسات رسمية وغير رسمية قوية قادرة على إدماج الكتاب في الدورة الاقتصادية وفي الحياة السوسيوثقافية للإنسان المغربي.

قلما يصل صدى الرواية المغربية إلى المشرق باستثناء بعض الأعمال، ما أسباب عدم وصول المنتج الروائي المغربي إلى المشرق العربي؟

السبب عائد إلى غياب سياسات ومؤسسات تدرك أهمية الكتاب من الناحية الاقتصادية وتدرك دوره في تكوين الإنسان والرقي به، وفي تطوير العلوم والمعارف والمهارات. ويضاف إلى ذلك غياب التنسيق العربي.. لا يعقل أن لا تسمح الدول العربية في عصر العلم والمعرفة بسيولة الكتاب العربي، أي بما يسهّل نشره وتوزيعه في كل الدول العربية.

هناك أدباء مغاربة وصلوا إلى العالمية بفضل اللغة الفرنسية مثل الطاهر بن جلون وإدريس الشرايبي وفاطمة المرنيسي، وهو ما عجز عنه أقرانهم الذين يكتبون بالعربية، كيف تفسر هذه الظاهرة؟

في بلد مثل فرنسا يتعلق الأمر بمؤسسات حقيقية للنشر، مدعمة بمؤسسات إعلامية وثقافية، وبقرارات سياسية تعتبر الكتاب والقراءة من أولويات السياسات والمخططات الإستراتيجية، وبوعي جماعي بأن الكتاب عنصر أساس في حياة الإنسان.

كيف يؤثر طغيان النص الروائي المكتوب باللغة الفرنسية على الأدب المغربي؟

يصعب أن نتحدث عن طغيان، فالرواية باللغة العربية في المغرب استطاعت منذ عقود أن تؤسس لها مكانة متقدمة داخل المغرب وخارجه، وكما توجد أعمال كبرى باللغة الفرنسية، توجد أعمال كبرى باللغة العربية، دون أن ينفي ذلك وجود تأثر متبادل بينهما، أو ينفي تأثر الرواية المغربية بتحولات الرواية الفرنسية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن المغاربة يقرؤون للمشارقة أيضاً، كما يقرؤون لكتّاب عالميين من أمريكا اللاتينية أو آسيا أو أميركا وأوروبا.. ولم يعد الأدب الفرنسي هو الوحيد الذي يتفاعل معه الأدب المغربي.

يتهم بعض الأدباء المغاربة النقاد بإهمال النصوص الحقيقية والتركيز على أسماء معينة، لماذا الاحتفاء ببعض الأعمال الأدبية دون غيرها؟

بالنسبة لي، أبحث عن النصوص التي يمكن أن تغني التصور النفساني للكتابة، وفي كتبي ومقالاتي، قراءات لروايات وقصص من الأجيال السابقة واللاحقة والجديدة، ولكتّاب من المغرب العربي كما من المشرق العربي، وللكتّاب والكاتبات. يفترض في الناقد أن يكون له مشروع نقدي، ولا يفترض في هذا المشروع أن يشمل كل ما يصدر من روايات وقصص.