مضى أحد عشر عاماً على مقتل الطفل الفلسطيني محمد الدرة عام 2000 برصاص مجرم إسرائيلي تعمّد اقتناص روحه من بين أحضان والده، لم ينس العالم ذاك المنظر، إلا أن العالم أفاق-بالأمس القريب- على منظر أشد بشاعة ووحشية من خلال مقتل الطفل السوري حمزة الخطيب الذي فاق في بشاعة الجريمة كل التصورات نتيجة التعذيب والتمثيل والتنكيل الذي طال روحه الطاهرة قبل جسده الذي انتهك بطريقة توحي بضراوة المرض النفسي الذي نال من أولئك المجرمين، الذين استلبوا كل معاني الإنسانية قبل استلابهم كل براءة الطفولة لطفل لم يتجاوز الثالثة عشرة، ذنبه في ذلك أنه لا ذنب له، وكأن قاتليه صبّوا كل احتقاناتهم طوال أربعين عاماً على جسد هذا الطفل؛ فقد كشف مقتل الطفل حمزة وحشية الجريمة المنظمة ضد الإنسانية، وضد الطفولة والبراءة على وجه الخصوص، بعد أن كشفت أحداث الثورة السورية حجم الهلع السياسي لدى مختلف دوائر النظام، فتحرك أصحابها كـ"خبط عشواء"، حيث ضاقت عليهم دوائرهم حد الاختناق، وهم الذين كانوا يتمترسون حولها منذ أربعين عاماً، بعد أن تمحوروا حول ذواتهم موغلين في الجريمة ضد كل من يعتقدون أنه يهدد مصالحهم الذاتية وبقاءهم (رؤوساً) إلى ما لا نهاية!

إنها جريمة ليست كأي جريمة أخرى، لأن دافعها ليس القتل فحسب، بل هدفها الإمعان والإغراق بإزهاق نفس بشرية لطفل بريء، مما يعتبر انتهاكاً سافراً لحقوق الطفولة في العالم أجمع، وهنا تمثل الأنظمة المستبدة خطراً على المجتمعات ولا يستقيم الأمر إلا بالتغيير الذي تفرضه شروط الحرية. وعلى الرغم من إيماني أن العالم بدوله العظمى وغير العظمى لن ينتقم أبداً لطفولة حمزة، إلا أن السكوت عن هذه الحادثة وتهميش الأمر يمثل جريمة من شأنها أن تشرّع لاختطاف أرواح الأطفال، الذين يعذبون ويمثل بأجسادهم من أجل أن يكونوا عبرة لآبائهم وأمهاتهم وإخوانهم!

لم يكن حمزة جندياً في معركة، ولا إرهابياً يربط حزاماً ناسفاً حول خصره، بل حتى لو كان كذلك لا يوجد ما يسوغ ويبرر قتل طفل فضلاً عن قتله بهذه الطريقة المتوحشة، التي فاقت كل جرائم التعذيب، لكنها ربما ستكون المسمار الذي سوف يدق في نعش النظام، والخازوق الذي يعلق عليه أولئك المجرمون بحق الإنسانية. ولذلك فإن من قتل حمزة ليس شخصاً ولا شخصين، ولا عصابة، بل منظومة متكاملة من صنّاع الجريمة المنظمة والظلم الواضح والفساد المتعمق، فمهما كان المجتمع مسالماً أو حتى خانعاً، فإن طبيعة النظام السياسي لا بد أن تؤثر بشدة على البنية الاجتماعية، فتخلق طبقات وطبقات من الديكتاتورية بين السلطة والمجتمع (المعزول) أصلاً عن السلطة ومصنع القرار بفعل طبيعة النظام الشمولي بكل دوائر المنتفعين منه، وهم يمثلون طبقات تشمل فئة ليست بقليلة من المجرمين، وتشكّل حماية لمركز السلطة إلا أن استمرار الحال من المحال كما يقال، فالحياة متغيرات وسياسة الأحادية لن تصمد طويلا أمام شعب استفاق بعد كبت متواصل ولّد الانفجار، فما حصل في سورية هو انكشاف لهشاشة النظام أمام الوعي، فالثورة السورية هي امتداد للثورات العربية الأخيرة، بعد أربعة عقود من الظلم والقهر جعلت الشعوب تقول كلمتها: الشعب يريد إسقاط النظام!

الحرية مطلب ضروري لكل إنسان، بل هي أول مطلب للإنسان إلى جانب المساواة، غير أن هذا المطلب يصطدم دوماً بتسلّط الأنظمة البوليسية التي تتوجس من شعوبها وتتعامل معها وفق مبدأ أنا ومن بعدي الطوفان، هنا يكون ثمن الحرية والاستقلال باهظاً، حيث لا يمكن استمرار الطغيان إلى الأبد، وبالتالي فالحرية لا تستلب إلى الأبد، وإن صودر التعبير عنها سلوكاً، فإنه لا يمكن مصادرتها من العقول التي تفكر بها، حيث تبقى شعوراً داخلياً حتى يأتي الوقت المناسب لخروج هذه الأفكار المخبوءة كفعل أو قول ينطلق من القلوب ليبلغ الحناجر فيعلنها الشعب مدوية: حرية!

إذا كان بوعزيزي هو مشعل الثورة التونسية، فقد ضحى بنفسه نتيجة القهر والذل والفقر، فإن حمزة الخطيب هو ضحية الإرهاب السياسي الحكومي وقد أصبح اليوم شعاراً للثورة السورية، يحاول الإعلام الرسمي إلصاق التهمة بـ(الشبّيحة)، ومهما كان الأمر فإن ظهور الشبيحة ليس إلا تكراراً لمدعاة البلطلجية والمرتزقة، ولولا فساد النظام لما ظهر هؤلاء وأمثالهم من الذين يتيقن المجتمع بأنهم نبات شيطاني ظهر في أرض خصبة للفساد، ولن يجدي اليوم ترديد الأسطوانة المشروخة: الأجندة الخارجية!

الذي يظهر حتى الآن أن الثورات العربية لم تستنجد بأطراف خارجية كما حصل في العراق بل إنها نجحت بعد أن حملت شعار (صنع في العالم العربي) واتّبعت مبدأ (اللاعنف) فكان ما كان من أمر الرؤساء، وما صاحبه من دماء بريئة، وظهور المتحلقين حول النظام على شكل عصابات إجرامية منتشرة بين السكان، فصورة مقتل حمزة الخطيب ترسم خارطة طريق لمرحلة قاتمة قادمة، أتمنى أن تنتهي بمستقبل عربي أكثر حرية وإنسانية.