في غمار ثورات بعض الشعوب العربية أخيراً على أنظمتها، وتصاعد وتيرة الصوت التحرري في المجتمعات العربية التي بقيت متوارية خلف شحوب المشهد الانسيابي، الذي صاغ على الأغلب أكثر بيانات الصورة في قلب العالم العربي وأنظمته. التي قلصت من اهتماماتها بإهمالها لضرورة الانفتاح على العالم من خلال إيجاد دساتير لها روح العصر ومتغيراته. والبدء في تكوين مخيلة سياسية جديدة تتماهى مع منظومة المتغيرات العالمية. لكن ذلك على ما يبدو غير مفهوم بقصد أو بغير قصد (أو بكليهما معاً في الغالب) لدى العديد من الأنظمة السياسية العربية، التي أسست كياناتها على أساس تبني حزب أحادي يدعي الديموقراطية، إلا أنه لا يقبل بالشركاء سوى بشكل صوري. ونتيجة لذلك تجدها تمارس تعسّفها تحت مظلة قانونية ديموقراطية مصطنعة تعلن اهتمامها بحقوقها وتهمل واجباتها نحو الآخر. وهو ما يرسم صورة لخواتيمها كأنها شواهد القبور. فهي في حقيقتها غير قابلة سوى لبقائها بما هي عليه، أو سقوطها سقوطاً كلياً وفجائياً. وينسحب ذلك على كل تعصب لفكر سياسي بعينه. لأنه يخضع بين الفينة والأخرى للتلميع وليس للتقليب. فيتآكل من الداخل حتى الرمق الأخير ليتهاوى على ذاته كنهاية منطقية لكل التقلبات التي مرت بها والأزمنة التي عاصرتها دون أن تقدم لنفسها ما يشفع لها حتى عند ذوي القربى على الأقل.
وما يحدث الآن من صراعات فيما بين أبناء البلد الواحد على لوحة المشهد العربي في الحقيقة ليس إلا نتيجة صريحة وحتمية لما تم تبنيه وتكريسه وتسويقه لفكر أحادي وحزب أحادي، طُبق بقصد أو بدونه على بعض المجتمعات العربية، التي قبلت ذلك سلماً ودون تحقيق في قوة وحقيقة المرجعية التي استندت إليها تلك التطبيقات والممارسات الفكرية الأحادية. ربما لثقتها في كل ما هو صادر عن رجل سلطة أو مؤسسة (مع تعمدي لعدم وصف بعض أنظمتنا السياسية بالمؤسسات السياسية).
وأقول ربما لأن طغيان صبغة تلك الخطابات الفكرية المُتبناة (التي ميزتها وطغت رائحتها الأحادية) على كافة الخطابات الأخرى الموازية لها فكرياً في المجتمع العربي تحديداً والإسلامي بشكل عام. قد أدى إلى نشوء خلل في العلاقة بين تلك السلطات وبين مجتمعاتها التي لم تشعر بما حولها ذات عمر.
ولقد آمنت المجتمعات العربية أخيراً، انطلاقاً من كونها جزءا من التكوين الاجتماعي العالمي، بأحقيتها في الحصول على هامشها التحرري هي أيضاً. فكان أن قررت أنه لا فائدة من استمرارها أسيرة لغيبيات الوعود وتأجيل الأحلام. فخرجت إلى الشارع الذي طالما عرفت أن له من القوة ما يمكنها من قلب وتغيير واقعها المتخلف إلى مفازات أخرى أكثر جرأة لها روح الحياة، مستعينة على ذلك بإرث تاريخي خاص بها، وعالمي من حولها قدم لها صكوك القوة والشجاعة لفعلها والخروج للتنفس أكثر. ومن الغريب أن الثورات العربية السابقة والأخيرة لم تقم وفق منهج وفكر وتعريفات الثورات العالمية التي سبق التخطيط والإعداد لها كالثورة الروسية البلشفية أو الثورة الثقافية الصينية أو الثورة الفرنسية أو الثورة الإيرانية مثلاً.
إذ لم تتواطأ مع فكر أيديولوجي محدد، أو مرتبط بفكرة ثورية بعينها، كما أنها لم تخضع لإعداد وترتيب ممنهج مسبق، (مع التسليم بأنه تمت تهيئة الأجواء لحدوثها قطعاً). غير أنها تقاطعت مع بعض مبادئ ومطالب الثورات العالمية ككل، كالعدل، والمساواة، وحق حرية التعبير، وإرساء الحقوق المدنية، ومطالب توسيع هوامش الحريات، وهي دلالات على واقع غبن اجتماعي وسياسي واقتصادي صرف. مستلهمةً من ضوء وسحر مفردة (التغيير) نقطة الانطلاق الرئيسية لها، ومعلنةً عن ديناميكية ثورية جديدة غير منساقة خلف تبعية بعينها، أو ملتحفة بزي مدرسة فكرية بذاتها. وهذا هو سر تفرد وديناميكية الثورات العربية الجديدة تحديداً.
والملهم الذي ميز الثورات العربية الحديثة هو تبني فئة الشباب لكل يومياتها وبديهياتها ومطالبها. ولم تلغ مع ذلك بقية شرائح المجتمع، بل تفاعلت وتماهت بصورة قل نظيرها مع كافة شرائح المجتمع وتنوعه، وأوجدت لصوتها فضاءات رحبة استوعبت كل ألوان الطيف الفكري والاجتماعي والديني والسياسي، ورحبت بها بأريحية بالغة لا تحمل ملاحظات على أيٍ منها مطلقاً.
ولم تمارس الإقصاء الفكري أو الديني أو السياسي الذي عهدته بعض الثورات العالمية الأخرى على عظمتها، باستثناء بعض فصول الثورة الفرنسية.
من هنا تبدو حقيقة الثورات العربية الجديدة كمصدر إلهام، وهي بذلك إنما تؤسس لمستقبل متفتح قادر على احتواء الاختلافات مهما تعقدت أساليب تقديمها وتنفيذها على أرض الواقع.
وإن منطقاً ثورياً كهذا لهو منطقٌ ملهمٌ حتى الرئتين.