واحدة من أبرز التجارب السعودية ضمن مواجهتنا الوطنية مع الإرهاب والتطرف، يمكن تلخيصها في برنامج المناصحة، بمركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، ذلك أنه يدرك أن ثمة جوانب في معادلة التطرف والإرهاب لا يمكن معالجتها أمنيا، لأنها باختصار ليست أمنية، بل هي فكرية وثقافية، ولذا تحول مركز الأمير محمد بن نايف إلى أشبه بدار ثقافية فكرية، تكتظ جنباتها بالنقاشات والحوارات المتنوعة، بين الموقوفين الذين تم إطلاق سراحهم، وبين مختصين في الفقه وعلم الاجتماع وعلم النفس، وقد حصدت هذه التجربة إشادات عالمية، ليس لما تقدمه من فعاليات فحسب، بل لما تقدمه من رؤية جديدة وواعية في مواجهة الأفكار بالأفكار، والمعرفة بالمعرفة. وهو نمط جديد في التعاطي العالمي مع الإرهاب.
منذ عام 2003 شاعت في القاموس الإعلامي والسعودي مفردة (المناصحة)، وبدأت كممارسة، تحولت بعد ذلك إلى مركز مؤثر. ورغم ما تداولته وسائل الإعلام عن عودة واحد أو اثنين ممن مروا بالبرنامج إلى ما كانوا عليه قبل المناصحة إلا أن ذلك ومع ما يفتحه من أسئلة وحاجة مستمرة للمراجعة، لا يمكن أن يمثل دليلا على مشكلة في البرنامج، بل مشكلة في أولئك الذين عادوا إلى سابق عهدهم، وبالمنطق الرياضي البسيط، فلا يمكن مقارنة هذا العدد الضئيل بتلك الأعداد الكبيرة ممن استقامت حياتهم بعد البرنامج. تطور البرنامج ليحول من فعالية إلى مؤسسة، وكانت تلك أبرز الخطوات في مسيرته، وانطلق مركز الأمير محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، لتتسع رؤيته من المناصحة بمفهومها الفقهي لتشكل المناصحة أيضا بمفهومها النفسي والاجتماعي والمعرفي، ولتتنوع برامجه ومساراته، بما يمثل إحاطة كاملة تغطي مختلف الجوانب التي تحتاج لعلاج ونقاش وبحث في شخصية المستفيد من البرنامج.
يمضي المستفيدون من المركز قرابة أربعة أشهر، يتم بعدها تقييمهم على أكثر من مستوى، واللافت في المركز، أنه يتحرك وفق جانبين، فبمجرد أن تنتهي المناصحة، تبدأ الرعاية، وهي مسار متكامل، يهدف إلى رعاية المستفيد بعد خروجه من المركز، ومحاولة تلبية اهتماماته وطموحاته على الصعيد التعليمي والعائلي والاجتماعي.
إنما، وبرغم كل هذا النجاح، تحتاج قضايا المناصحات والنقاشات الفكرية، إلى الإيمان بمبدأ مهم وحيوي للغاية، وهو أن التطرف ليس تطرفا في الأفكار، وإنما في درجة التمسك بتلك الأفكار، والتعايش مع المختلفين معها، بمعنى أن جاري في الحي الذي أسكن فيه مثلا، إذا كان يرى أن وجود صحن فضائي على سطح منزلي يعد مخالفة ومعصية، فهذا رأيه هو وله مطلق الحرية بما يعتنقه ويؤمن به في هذا الصدد، لكن القضية والتطرف الحقيقي يبدأ حينما يحاول هذا الجار تطبيق قناعاته تلك علي وعلى جيرانه، ففي هذا الحالة يتحول الرأي والمعتقد من حالته الفكرية إلى حالته التطبيقية، وهو التحول الذي لا مكان له في ظل القانون ولا في ظل الحريات ولا في ظل الحياة الحديثة. والذين كانوا يقولون بتكفير الدولة وتكفير المجتمع، كانوا إنما يحملون رأيا، سوف يحاسبهم الله تعالى عليه، لكن ما برر اعتقالهم والقبض عليهم هو تحول ذلك الرأي لديهم من كونه فكرة إلى أمر يريدون إنكاره ومجابهته.
هنا يأتي سؤال (المناصحة)، لأن العمل على تغيير الأفكار، من حيث كونها مجرد أفكار أمر لا يمكن الإحاطة به، والذين يتم القبض عليهم أو إعلان أسمائهم في القوائم ليس لأنهم لا يفكرون بشكل معتدل، أو لأن أفكارهم متطرفة، بل لأنهم تحولوا من مؤمنين بأفكار إلى ساعين لفرضها وتطبيقها، وهو ما يمثل خروجا على سلطة القانون والنظام والدولة. وفي كثير من دول العالم هناك من يحملون أفكارا لا تنسجم والتوجهات العامة في سياسة بلدانهم ولكنها تظل مجرد أفكار، لا تشكل خطرا، إنما يبدأ خطرها حين يسعى أحد ما لتنفيذها واقعا. وهنا يأتي الإنكار كأبرز الأدوات الفقهية التي قد تنطلي شرعيتها المطلقة على بعض من يحملون أفكارا متشددة، حين يرى أحدهم أن من واجبه إيقاف ما يراه منكرا، وفرض ذلك الإيقاف بالقوة، والإيمان بوجود ولاية وسلطة تخوله للقيام بذلك.
أمام هذه المعادلة يصبح الاحتياج الحقيقي هو أن تكون مختلف الفعاليات الفكرية والثقافية المتعلقة بالموقوفين أمنيا موجهة نحو تعميق مفهوم الدولة والقانون، فالدولة بمؤسساتها هي المعنية والمخولة فقط بصناعة الواقع وتغييره وإدارته وليس الأفراد، ومؤسسات الدولة هي الجهات التي تخوض حوارا يوميا مع الناس من أجل أن يكون دورها راعيا لهم ولمصالحهم، ويتم نقد أي إخلال ومواجهته عن طريق الرأي والفكر والإعلام، أما الإنكار كوسيلة لفرض الرأي من خارج المؤسسة فلا مكان له في ظل الدولة، وكل الذين تورطوا في أعمال إرهابية إنما خرجوا منكرين لمنكر، ليست القضية في أنهم آمنوا بوجوده، ولكنها في كونهم خولوا أنفسهم لإنكاره، مما يعني أنه من غير الواجب السعي لتغيير أفكارهم، وإنما لتغيير إيمانهم بالوسائل التي يتعاملون فيها مع تلك الأفكار، وهنا يمكن التأكيد على أن برنامج المناصحة استمد نجاحه من كونه استطاع أن يوازن بين منطق الالتزام ومنطق القانون، واستطاع أن يوفق بين المعادلة حين تكون فكرية، وحين تكون أمنية.
سوف أكون لطيفا جدا مع جارنا إذا تطفل لإبداء رأيه في وجود صحن لاقط فوق منزلي، لكن لن أكون كذلك أبدا، لو وجدته في أعلى السطح يحاول أن يزيل ذلك (المنكر) بنفسه.