يمكن القول إن الرقابة المالية في المملكة قديمة، فهي ترجع في أصولها واستخداماتها إلى بداية نشأة الدولة، لكنها حديثة في مناهجها وأساليبها وتنظيماتها الإدارية. بمعنى آخر أنها كمفهوم وكتطبيق كانت ضمن التشريعات الأساسية والتكوين الإداري للمملكة، أما الأجهزة التي تمارس هذه الرقابة والأنظمة التي تحدد واجباتها وصلاحياتها فقد ظلت تنمو وتتطور مع مرور الوقت إلى أن وصلت إلى ما هي عليه الآن.
هذه المقالة تهدف إلى تقديم لمحات تاريخية عن تطور دور ووظيفة ديوان المراقبة العامة في المملكة منذ توحيدها على يد الملك المؤسس إلى وقتنا الحاضر، وذلك من خلال تتبع مراحل ونشأة وتطور ديوان المراقبة من شعبة محدودة المهام والاختصاصات ومرتبطة بالنائب العام إلى هيئة مركزية تمارس الرقابة بمختلف أنواعها وأشكالها.
فقد بادر الملك عبدالعزيز آل سعود (رحمه الله) بوضع اللبنة الأساسية الأولى للرقابة المالية، حيث صدر أول نظام للحكم والإدارة بتاريخ 21/2/1345هـ الموافق 30/8/ 1926م، وذلك ضمن "التعليمات الأساسية"، واحتوى هذا النظام نصوصاً تقضي بإنشاء "ديوان المحاسبات"، يتكون من رئيس وثلاثة أعضاء يعينهم الملك، من ذوي الاقتدار في الأمور الحسابية والمعاملات المالية، ويقوم هذا الديوان بالتفتيش على عموم الدوائر ذات الواردات ومراقبة المصاريف العمومية. ونصت مواد النظام أيضاً على أنه لا يجوز صرف أي مبلغ كان من خزينة الدولة قبل تأشير ديوان المحاسبات عليه بوجوب الصرف، وذلك يحدد في نظامه المخصوص ما لم تصدر فيه إرادة صاحب الجلالة.
هذا وقد زاد اهتمام الدولة بالمتابعة والرقابة المالية على أعمال أجهزة الدولة، ففي تاريخ 12/7/1373هـ ، الموافق 17/3/1954م صدر أول نظام لمجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية في عهد الملك سعود (رحمه الله)، والقاضي بتنظيم أعمال مجلس الوزراء واختصاصاته، وتشكيل شعب تلحق بديوان رئاسة المجلس، واختص الباب الثاني من نظام شعب المجلس بمراقبة حسابات الدولة، وسميت هذه الشعبة آنذاك بـ "مراقبة حسابات الدولة" وحددت اختصاصات وصلاحيات هذه الشعبة وتشكيلاتها في النظام.
وفي فترة لاحقة أصدر مجلس الوزراء قراراً برقم (86) وتاريخ 6/4/ 1374هـ الموافق 1/12/1954م، يتضمن الموافقة على سلسلة من التعليمات الخاصة بمراقبة حسابات الدولة، ومنها أن المجلس يوصي بجعل شعبة مراقبة حسابات الدولة باسم "ديوان مراقبة حسابات الدولة"، ثم صدر المرسوم الملكي رقم 5/20/3/246 وتاريخ 26/1/1375هـ، الموافق 13/9/1955م ، والمتضمن تعيين السيد/محمد حسن فقي، نائباً لرئيس الديوان، وكان يومها وزيراً مفوضاً للمملكة لدى إندونيسيا، وورد في هذا القرار اسم الديوان باسم " ديوان المراقبة العامة"، وهو الاسم الذي يعرف به الديوان حتى الآن.
وبعد تعيين الفقي، باشر أعماله الموكلة إليه وشرع في توفير الموظفين اللازمين للديوان، وظل الديوان بدون رئيس حتى صدور المرسوم الملكي رقم 5/20/3/2270 وتاريخ 6/11/ 1376هـ، الموافق 4/6/1957م، والمتضمن تعيين صاحب السمو الأمير مساعد بن عبدالرحمن مراقباً عاماً لحسابات الدولة.
وبعد تعيين الأمير مساعد شرع في إصدار لائحة داخلية لديوان المراقبة العامة، تتضمن الهيكل الإداري للديوان، والذي أصبح يتألف من أربعة أقسام، هي (قسم التفتيش، قسم المراجعة، القسم المالي، القسم الإداري).
وفي عام 1377هـ/1958م صدر نظام مجلس الوزراء الجديد، وأصبح رئيس مجلس الوزراء مرجعاً لرئيس ديوان المراقبة العامة، كما صدر في العام نفسه نظام الممثلين الماليين في كل من الوزارات والإدارات الحكومية المختلفة، وبموجب هذا النظام أصبح الديوان يمارس الرقابة المسبقة واللاحقة في نفس الوقت، فأصبح في كل وزارة وإدارة حكومية (ممثل مالي) ملحق بديوان المراقبة العامة، ووظيفته التحقق من صحة الارتباط بالصرف بموجب الأنظمة والتعليمات السارية، ولا يتم الارتباط أو صرف أي مبلغ إلا بعد موافقة الممثل المالي في الجهة المعنية.
هذا وقد ظل الأمير مساعد بن عبدالرحمن مراقباً عاماً لحسابات الدولة حتى عام 1380هـ، حين استقال من منصبه، وخلال الفترة نفسها تم تعيين السيد داغستاني نائباً لرئيس الديوان، خلفاً للسيد محمد حسن فقي، وفي نفس العام أيضاً صدر نظام جديد للممثلين الماليين، انتقلت بموجبه مهمة الرقابة المسبقة إلى وزارة المالية التي صارت مسؤولة عن الممثلين الماليين، مما أعطي ديوان المراقبة العامة استقلالية أكثر.
وفي عام 1383هـ، قامت وزارة المالية والاقتصاد الوطني بتوجيه من مجلس الوزراء بالتعاقد مع (مؤسسة فورد الأميركية) لإعادة تنظيم الجهاز الإداري بالمملكة، وقد انتهت مؤسسة فورد من دراساتها، وكان من ضمن توصياتها: اقتراح نظام جديد للميزانية والحسابات، ونظام آخر للإجراءات الحسابية مع التوصية بتطوير ديوان المراقبة العامة، وبناءً على ذلك فقد صدر في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز (رحمه الله) عام (1391هـ/1971م) نظام جديد للديوان، كما صدرت لائحة تنفيذية له، وقد جاء كل من النظام واللائحة تتويجاً لتلك الدراسات لما تضمناه من مبادئ حديثة في مجال الرقابة الحكومية.
وبصدور نظام ديوان المراقبة العامة القائم حالياً تبلورت مفاهيم الرقابة على أموال الدولة وحساباتها بشكل يواكب ما حققته أجهزة الدولة من تطور في الميادين التنظيمية والمالية والمحاسبية ونمو مهارات القوى البشرية بها، وتقدم أساليبها وتقنياتها في الأداء.
وبموجب هذا النظام لم يعد الديوان شعبة من شعب مجلس الوزراء كما هو الحال في نظامه السابق، وإنما أصبح جهازاً مستقلاً طبقاً للمادة (1) والتي تنص على أن " ديوان المراقبة العامة جهاز مستقل مرجعه رئيس مجلس الوزراء"، وفي مجال اختصاص الديوان نصت المادة (7) على أن " يختص الديوان بالرقابة اللاحقة على جميع إيرادات الدولة ومصروفاتها...".
أكتفي بهذا القدر من التسلسل التاريخي لنشأة وتطور ديوان المراقبة العامة في المملكة، وفي المقالة القادمة بإذن الله سوف أتحدث عن التطورات اللاحقة لوظيفة الديوان وبالأخص في عهد خادم الحرمين الشريفين حفظه الله.