تداعت ذكريات طفولتي عن مدينة طريف الحالمة، وهي تتوشح بنفسج الخزامى، حين تتداخل خيوط الضوء بدموع الأمل وتكحل عينيها بنسمات الصيف الباردة، فيعزف الربيع سيمفونيته الملونة لكل الفصول. تداعت تلك الذكريات، حين قرأت ما أعلنه وزير المالية الأربعاء الماضي، عن اكتمال سكة حديد الشمال - الجنوب الذي يربط مناجم الفوسفات بحزم الجلاميد قرب مدينة طريف في الحدود الشمالية بمناطق التصنيع في رأس الزور على الخليج العربي بسكة حديد بطول 1392 كيلومترا.
مشروع الفوسفات في الجلاميد يشمل منجما للفوسفات و مصنعا لمعالجة الخام و يهدف المنجم لإنتاج 11.6 مليون طن في العام. حيث التقديرات الاحتياطية تشير إلى نحو 1.6 بليون طن. والمشروع مشترك بين شركة التعدين وسابك بنسبة 70% لمعادن و30% لسابك، ويعد الأكبر من نوعه عالميا ويشمل 4 مجمعات لإنتاج الأسمدة في رأس الزور في الجبيل الصناعية.
أكثرما يستوقني، في ثقافة أهل طريف وأغلب مدن الشمال، هوحب العمل، وهي الثقافة التي يمتد حبلها السري إلى شركة التابلاين التي يعود لها بناء وتأسيس الجانب المادي والمعنوي في تلك الثقافة. تأسس خط التابلاين سنة 1366 هـ، بأمرمن الملك عبدالعزيز حين تم توقيع اتفاقية امتيازمع شركة الأنابيب، وبشراكة مع إسو Esso ، شيفرون Chevron تكساكو Texaco وموبيل Mobil. لإنشاء خط من الأنابيب لنقل النفط ومنتجاته من المملكة العربية السعودية إلى المرفأ النهائي على ساحل البحر الأبيض المتوسط وهو ميناء حيفا في فلسطين، إلا أن قيام دولة إسرائيل عام 1948، عطل تنفيذ المشروع وعندئذ أمرالملك عبد العزيز، إما بإلغاء الخط كاملاً، أو إيجاد مسار آخر، فتم تحويل إتجاهه إلى ميناء صيدا في لبنان عبر الأراضي الأردنية والسورية. وبعد فترة وجيزة، بدأ ضخ النفط إلى ميناء صيدا. حيث شيدت عليه خمس محطات في كل من النعيرية والقيصومة ورفحاء وعرعر وطريف، والأخيرة هي آخر محطة على الأراضي السعودية.
ومع إحتلال إسرائيل للجولان سنة 1967، توقف ضخ البترول عبر هذا الخط. وبتوقف خط التابلاين، يبست شرايين التنمية و تقلصت المدن وضمرت. مناطق الحدود الشمالية لم تشهد مشاريع تنموية حقيقية منذ إقفال خط التابلاين، سوى تأسيس جامعة الحدود الشمالية، التي تمنيت لواستبدل اسمها باسم جامعة الشمال، وكذلك اسم المنطقة، بسبب الصورة الذهنية التي ربطت المنطقة بأنها جغرافيا شريطية ومجرد منفذ لعبورالمسافرين وقدومهم.
أتساءل هل نقل الفوسفات من حزم الجلاميد في الشمال إلى رأس الزورعلى الخليج العربي، فعلا قرار اقتصادي وطني؟ وإذا كان كذلك، فهل من الاقتصاد، أن يتم نقل الفوسفات على بعد 1392كيلومترا، لتتم معالجته هناك وإضاعة مئات وربما آلاف الفرص الوظيفية والإستثمارية على أبناء تلك المناطق التي تتربع على أعلى سلم نسب البطالة في المملكة ومن أعلاها فقرا خاصة بعد أن يبست أوردة التابلاين وجفت شرايينه؟ وأين البعد الاقتصادي الذي يمكن أن يفسرعدم اعتبار"حزم الجلاميد" وبعض مدن الشمال مدنا صناعية واقتصادية تحتضن مجمعات سابك الصناعية لإنتاج الفوسفات بأنواعه و تفاصيله؟ فإذا كان المستهدف هوالسوق المحلي، فإن حزم الجلاميد تبعد حوالي 200 كم عن أكبر وأحدث منطقة زراعية في المملكة وهي "بسيطاء" بمنطقة الجوف، وإذا كان المستهدف هي الأسواق العالمية، فلماذا لا يصدرعن طريق البحرالأبيض المتوسط، لقربه من أسواق أوروبا؟ فضلاً عن إحياء منفذ البحر المتوسط، كخيار استراتيجي لتنويع منافذ التصدير والتغلب على الاختناقات خاصة وقت الأزمات، ولكي لا تبقَى صادرات المملكة مرهونة فقط بمنافذ البحرالأحمر والخليج العربي فقط؟
"حزم الجلاميد" ليست فقط مناجم فوسفات، فوزير البترول والثروة المعدنية أعلن منذ أشهرأنه قد تم اكتشاف" كميات جديدة من الغاز في حزم الجلاميد في منطقة الحدود الشمالية من المملكة العربية السعودية على بعد 95 كيلومتراً شرق مدينة طريف وأن الاختبارات الأولية أظهرت إمكانية استغلال الغاز تجاريا وتطويره، حيث يمكن أن ينتج هذا البئر كميات أكبر من الغاز تحت ظروف الإنتاج العادية. فكيف يغيب عن المجلس الاقتصادي، تأسيس مدن صناعية واقتصادية بعيدا عن الموارد الطبيعية والموارد البشرية التي تزخربها منطقة الحدود الشمالية، عندما تأسس عدد من المناطق الصناعية والاقتصادية في أرجاء مختلفة من المملكة؟ ثم أين وزارة العمل من الاقتراح والمطالبة بتأسيس مدن في مواقع، كهذه لإيجاد حل حقيقي لمشكلة البطالة بدلا من أسطوانة الوزارة المشروخة،التي ملأتنا ضجيجا وفوضى دون نجاح خلال أكثر من عشرسنوات؟ لماذا لم يؤخذ موقع منطقة الحدود الشمالية الاستراتيجي في الاعتبار في التصنيع وإعادة التصنيع وتنويع منافذ التصدير، وهي المنطقة المجاورة لبلدين عربيين، أحدهما مرشح لعضوية مجلس التعاون الخليجي، وهو القريب من تركيا وآسيا الوسطى وهو القريب من لبنان وسورية وبالتالي البحرالأبيض المتوسط؟ أليس من التفكيرالاستراتيجي، أن يكون لنا منفذ على البحر الأبيض المتوسط، بجانب منفذي البحرالأحمر والخليج العربي، خاصة أثناء الأزمات الدولية والإقليمية؟ ألم يعلمونا في المدارس، أن التنمية المستدامة لا تحقق أهدافها، إلا بتوافرالموارد الطبيعية أوالموارد البشرية أو بهما معا ؟
إن منطقتي الحدود الشمالية والجوف، كنزان بشريان وطبيعيان مؤهلان بجدارة لبذرة المدن الصناعية والاقتصادية و التجارية الحقيقية.
مشروع سكة حديد الشمال مشروع استراتيجي أيضا، وأهل الشمال أول المستفيدين منه، لكن المشاريع الاستراتيجية تتطلب تخطيطا غير مبعثر وبرؤية غير تقليدية. فحين توقف التابلاين وتوقفت المنطقة الجمركية في طريف، وفقدت معها مئات الأسر مصدر الرزق، وارتفعت نسبة البطالة، والفقر، ضمرت معها مدن الشمال وخلت إلا من كرم أهلها و وشهامتهم وروحهم الشمالية.