ذهب الموظف أكاكي أكاكيفيتش - بطل قصة المعطف لجوجول - إلى الخياط بتروفيتش من أجل إصلاح أو ترقيع معطفه الذي أصبح مجالا لتندّر زملائه في دائرة العمل. وبدلاً من أن يسمّوه معطفا، أطلقوا عليه "الشيء الرث" لتقادمه وانحلال قماشه وامتلائه بالترقيع. المعطف لم تعد له هيئة يتسمّى بها، وفقدَ فعلَهُ في أن يحمي جسد الموظف من لسعات البرد القارس تضربه وتؤذي صحّته. ورغم هذا تمسّك أكاكي بمعطفه ولم يفرّط فيه بدعوى أنه قابل للإصلاح، فقادتْهُ خطاه إلى الخياط لعلّه يعمل شيئا فيما أبلاه الزمن وأتى عليه. فكان الردُّ الجازم من بتروفيتش: (لا، من المستحيل إصلاح هذا المعطف. إنه رثٌّ وتعس. ليس معطفا، إنه مأساة).
الدلالة التي تطالعنا في هذا المشهد أنّ الزمن له حكمه الصارم الموجب للتحوّل والتغيير. لا شيء يبقى على حاله وعلى صورته الأولى. ما كان نافعا ومفيدا في وقتٍ ما؛ يصبح عبئاً مع مرور الأيام، ويكفّ عن أداء مهمّاته بجدارة بالشكل الذي يرضي ويلبّي ما يراد منه. ثمّة شقٌّ يوسّعه الزمن ومسافة كبيرة تنحلُّ فيها الأهميّة وتبطُل. ذلك أن الإمكانية والقدرة على الوفاء بالصلاحيّة محكومة بالواقع العيني والتاريخي. ما كان في الذاكرة ويبجّله الوجدان ويستجيب للحاجة ويضرم شعلة الأحلام؛ ليس ما هو عليه الآن. الواقع لا يمنحه صكَّ المصداقيّة، بل إنّ ما هو أنكى أن يضحي ميدانا للسخريّة، وذلك تنكيل ما بعده تنكيل، حين لا يُستجاب لنذير الزمن ومطرقته العاوية أن الاستنفاد بلغ منتهاه ووصلَ حدّ التشبّع والإنهاك وأنّ التغيير وافى لحظته وهي "الآن".
لا سبيل للتأجيل والمناورة والتحايل على منطق الزمن. الترقيع أجله محدود، وهو إن كان يسدّ وتقوم به الحال لفترة، إلا أنه في المحصلة النهائيّة لا يغني. إلى ذلك فإن الاستمرار بحيلة الترقيع والانتظار السحريّ لهدايا المفاجآت؛ لا يربّي إلا الوهم والأحلام الزائفة التي تنكر الواقع وسيرورته الهادرة، على نحوٍ يجعل كلفة التغيير باهظة وصعبة وشاقّة.. وكلّما جرى التسويف والإنكار يغدو الثمن مضاعفا، ولا مفرّ من أدائه مهما تضخّمتْ المبرّرات واشتدّتْ نبرة التفسيرات التي تجادل وتدفع بالحجّة الواهنة أنّ "الآن" لم يحن وقتُه وأنّ التغيير لا ضرورة تستدعيه.
التغافل والتعامي لا يعني أن الزمن لا يعمل، وأن القطار لم يبرح محطّتَه.
معاطف سياسيّة وثقافية واجتماعية، ما نزال نلفّها على أجسادنا ونعطي لها الهيمنة على أفكارنا وسلوكنا. ولا نعاين بالبصيرة والتأمّل كم أصبحتْ رثّة وغير قابلة للحضور في حياتنا وغير ملائمة لإيقاع عصرنا.
هي ليست معاطف. إنها مأساة.