في هذا الحديث نواصل موضوعنا الذي بدأنا به في الأسبوع الماضي عن المشهد المصري الراهن، من وحي زيارة لأرض الكنانة. وكان التركيز ولا يزال على محاور ثلاثة هي الأمن والاقتصاد والسياسة. أثناء لقاءاتي ببعض النخب السياسية المصرية، كان الحديث دائما يركز على الجانب السياسي، أكثر من غيره من المحاور. فالذين نزلوا إلى ميدان التحرير لم يطرحوا مطالب اقتصادية، وكانت مطالبهم سياسية بامتياز، حيث طغى شعار الحرية على ما عداه من الشعارات، على اعتبار أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
شعار الحرية ذاته، كما طرح في ساحة التحرير يحمل مدلولات كثيرة في التحليل الاجتماعي. إنه يعني أن الذين قادوا مسيرة الكفاح في الميادين المصرية، لا ينتمون اجتماعيا إلى المعدمين والطبقات الفقيرة، إذ من الصعب تخيل أفراد يقيمون في العشوائيات والمقابر، أو تحت الكباري، ويفتقرون لأبسط مقومات العيش الكريم، سيركزون على الحرية، ويحيدون شعار الخبز. الأقرب أن النداء الأكثر قبولا بالنسبة لهؤلاء هو أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، ولكن باللحمة أيضا، وليس بطرح شعار الحرية.
قراءة الخارطة السياسية المصرية، لا يمكن إذا فصلها عن التشكيلات الاجتماعية، التي لعبت دورا مركزا فيما جرى في مصر. فالشباب الذين تحركوا في 25 يناير ينتمون لمختلف التيارات السياسية، لكن الذين بدؤوا النشاط على الفيس بوك، وعرفوا بمجموعة خالد سعيد، وائل غنيم، أسماء محفوظ وكثير غيرهم، هم من التيار الليبرالي، الذي دعم الدكتور محمد البرادعي ووزع بياناته، لحظة وصوله إلى القاهرة، وإعلانه لأول مرة منافسته للرئيس السابق، حسني مبارك على كرسي رئاسة الجمهورية. مشروع الدكتور البرادعي، ركز على محاربة الفساد، وطالب بالحرية، لكنه تجنب الحديث، أو على الأقل لم يركز على حاجات الناس الإساسية. بمعنى، أن مشروعه غيب معالجة المشاكل الاقتصادية. وتلك ثغرة كبيرة، ربما تحقق له تظاهرة سياسية في ميدان التحرير لكنها لن تكسبه بكل تأكيد أصوات الجياع والمغيبين عن مشروعه، وهم كثر.
المصريون يتحدثون جميعا في السياسة، على غير ما كان مألوفا في تاريخهم. والمناقشات ليست مقصورة على نخبة أو طبقة بذاتها، فالكل يشارك من موقعه في الحوار الدائر الآن حول مستقبل مصر. أثناء العودة، في الطريق إلى المطار، سألت سائق التاكسي عن مرشحه لرئاسة الجمهورية، أجاب على الفور إنه عمرو موسى. سألته لماذا ليس مرشحا آخر، أجاب أن البرادعي صديق لأميركا وإسرائيل، وليس مدعوما عربيا، كما أنه ليست له معرفة بالسياسة... أنا سأنتخب عمرو موسى، لأن علاقته جيدة بالسعودية ودول الخليج، ولا يعارضه الأميركيون أو الأوروبيون. نحن نريد حل مشاكلنا الاقتصادية، بصراحة نريد أموالا والبرادعي لا يستطيع أن يحل مشاكلنا الاقتصادية. وحده عمرو موسى من يستطيع أن يجلب لنا القروض والمساعدات. وأخيرا أضاف: لا نريد رئيسا للجمهورية يكون صديقا لإسرائيل، بل صديقا للدول العربية، وخاصة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي. والبرادعي صديق لإسرائيل، أما عمرو موسى فعربي وصديق للعرب. كان هذا الوعي العفوي من سائق تاكسي لافتا للنظر، فهو ينطلق في تصوراته من وحي حاجته، وأيضا من وحي انتمائه لمحيطه العربي. هذا السائق ليس إلا عينة من جموع كبيرة تطرح مسألة معالجة الشأن الاقتصادي كأولوية لنهضة مصر. التقيت بمصريين في المطاعم وعلى متن الطائرة التي اتجهت بي إلى القاهرة، والموضوع ذاته يستأثر على تفكيرهم، والأجوبة متقاربة.
موضوع الاقتصاد والانتماء العربي، هو الذي يجعل رجل سياسة آخر، ينوي الترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، هو عضو مجلس الشعب السابق، السيد حمدين صباحي، يحظى بحضور قوي في الأرياف، وفي المدن الصناعية، كحلوان وأبوزعبل، وأيضا في الأوساط الشعبية بالمدن الرئيسية، كون برنامجه يركز على معالجة الأوضاع في العشوائيات والأحياء الفقيرة، ويطرح بقوة قضايا التعليم والعلاج المجاني، والحد الأدنى للأجور، ومشاكل التأمين الصحي. كما يركز أيضا على انتماء مصر العربي، بما يجعل البعض يعتقد أن الأمور لم تحسم بعد، وأن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت.
على الصعيد السياسي، يشهد المسرح السياسي تنافسا محموما بين مختلف القوى السياسية، فهناك قوى سياسية جديدة تتأسس، وقوى قديمة، تعيد تشكيل هياكلها، وأخرى تعيش صراعات قاسية، حول ماهية البرامج التي ينبغي تبنيها للتماهي مع طبيعة المرحلة القادمة. تحالفات تتأسس، وأخرى تنهار، والهدف هو الوصول إلى قبة البرلمان، كمرحلة أولى، والتنافس على الوصول إلى الموقع الأول في مرحلة لاحقة. وفي ظل هذا التزاحم، فإن أفضل ما يمكن الوصول له، هو تحقيق ائتلافات سياسية مرحلية، بين توجهات ورؤى متنافرة، لن تتمكن من الاستئثار بقبة البرلمان إلا عبر مساومات تأخذ من حصة كل منها، بحيث لا يبقى في النهاية سوى القليل القليل من المشتركات. وفي النهاية لن يبقى أمامنا سوى لوحة رمادية تتجاذبها أطراف الحكم يمنة ويسرة، ولن يكون بمقدورها تلبية طموحات وآمال الكتل العريضة في تحقيق التقدم والنماء.
وعلى صعيد الخارطة الاجتماعية، أمامنا لوحات سيريالية زاهية، مشبعة بالرجاء والأمل، تحوي كل شيء، وتفتقر إلى الإجابة عن أبسط الأشياء، بما في ذلك تقديم إجابات متماسكة حول موضوع الهوية. وربما وجد المتنافسون المؤتلفون في غير ذلك تفويتا لفرصة تاريخية، لوصولهم إلى مطمحهم في السلطة. والحل هو تأجيل كل التفاصيل لحين إنجاز المهمة العاجلة.
هذه الحقائق تفرض واقعا جديدا مؤقتا، على حركة القوى السياسية الفاعلة في المجتمع المصري، هو القبول ببرنامج الحد الأدني، الذي يستطيع جمع كل الأطراف تحت خيمته، لكن هذه بالتأكيد ليست مهمة النهوض بمصر، لأن مهمة النهوض تقتضي الغوص في كل التفاصيل، وتحديد برنامج استشرافي عملي وفكري متكامل، يتجه بقوة نحو المستقبل.