البلطجية أو الشبيحة هم أحد أهم الجماعات المؤثرة في ساحات الثورات العربية الحالية. ابتداءً من الثورة التونسية ومرورا بالمصرية وحاليا في ليبيا واليمن وسورية تواجدت على مسرح العمليات جماعات استثنائية لا هي مع الشعب ولا هي ممثلة "رسميا" للحكومات. جماعات تتميز بخصائص استثانية. سأحاول في عدد من المقالات القادمة الإطلال، بما يناسب المقال الصحفي، على الخصائص النفسية والاجتماعية لهذه الجماعات كما على جذورها التاريخية والمعنى السياسي الذي أوجدها.
لم يشهد المسرح العربي حضورا صارخا وصادما كذلك الذي حدث في ساحة ميدان التحرير في القاهرة حين هاجمت جماعات من البشر تركب الخيول والجمال ميدان التحرير مستخدمين السواطير والعصي لضرب المدنيين المعتصمين. دخلوا عليهم، وعلى ملايين المشاهدين في العالم، وكأنهم كائنات قادمة من كوكب آخر أو ككائنات استيقظت من دهاليز التاريخ العتيد. جماعات لا تنتمي لعالمنا اليوم، فلا يهمها قانون ولا إعلام ولا حرمة لأحد لديها. ليس هدفها تفريق المظاهرات فقط بل خلق حالة من الهلع والرعب في قلوب الناس. الناس خرجت للشوارع واضعة ثقتها في ذاتها وفي قدرمعين من القانون والمراقبة العالمية ستمنع الحكومات من الفتك بهم ولذا فإن خروج جماعات البلطجية والشبيحة يأتي لهدف كسر هذه القناعة. خروجهم يقول: المجال العام مرعب، تسيطر عليه جماعات لا يحكمها شيء. كائنات أقرب للأجهزة الآلية التي لن تأخذها في أحد رحمة ولا رأفة. جماعات تطلقها الحكومات لنشر الرعب دون أن تكون محسوبة عليها مباشرة. إذا كان العسكري مربوطا بنظم وقيادة وعلاقة مع الناس فإن هذه الجماعات خارج كل هذا العلاقات.
كلما كانت هذه الجماعات غريبة وخارج المألوف كانت أقرب لتحقيق الهدف. في مصر كانت الخيول والجمال مؤشرا على كائنات خارجة عن حساب المدنية الحديثة وأقرب لتوحش الإنسان الأول. في ليبيا كان الأفارقة القادمون من أدغال أفريقيا والمتعطشون للدماء هم من سيقدم الصورة المطلوبة، صورة الرعب الشامل. في سورية جماعات الشبيحة التي تخرج للناس بملابسها السوداء وكلابها المرعبة كفيلة بتحقيق الرعب في قلوب المتظاهرين. في اليمن لا يزال تواجد كائنات من قطّاع الطرق ومحترفي الإجرام يحيل الذاكرة الجماعية إلى تشبيه ساحات التظاهر والميادين العامة بالمناطق النائية التي تسيطر عليها العصابات وتفتك بالناس بلا رحمة. كانت الرسالة التي تريد إيصالها الحكومات للناس كالتالي: لا يوجد شيء اسمه مظاهرات أو احتجاجات سلمية. ليس في الخارج سوى هذه الجماعات التي ستفتك بالناس بدون أن تفكر في الإعلام أو العالم الخارجي أو ديموقراطية أو غيره. إنها الغابة القديمة فعد لبيتك وحافظ على حياتك. لم تستوعب بعض الحكومات أنها أحالت دولها إلى مكان لا يفرق كثيرا عن غابات الرعب والخوف وبالتالي لا جديد هنا.
ما يجمع كل هذه الجماعات في الثورات العربية الحالية هو "عدم الانتماء للمجتمع". منذ وقت طويل عمدت بعض الدول العربية إلى خلق جماعات لا منتمية لتحمي السلطة الحاكمة. سأعود في مقالين لاحقين لتتبع بداية هذه العملية منذ الدولة العباسية مرورا بالإمبراطوريات الإسلامية كما سأعود لتفسير هذه الظاهرة سياسيا ولكن المهم اليوم هو فهم حالة اللاانتماء عند هذه الجماعات. لنتذكر أن هذه الجماعات خلقت للقيام بعمليات إجرامية خارج سياق القانون. جماعات تنفذ عملياتها بعيون عمياء وقلوب مغلقة. السؤال هنا هو كيف يمكن الحصول على جماعات منظمة وكثيرة العدد وممتدة لفترات زمنية طويلة؟. لا بد هنا من عمل مؤسسي لإنتاج هذه الجماعات والهدف كما قلنا هو إنتاج جماعات لا منتمية بعيون عمياء وقلوب مغلقة أي جماعات شبه أتوماتيكية لا تشك الحكومات يوما في استجابتها لقتل الأبرياء وترويعهم أو ارتكاب مجازر وقتل الأطفال وغيرها من الكوارث التي سيرفض أغلب الناس المنتمين للمجتمع والناشئين بعملية طبيعية تنفيذها.
للحصول على جماعات بهذه المواصفات لا بد من عملية مسخ منظّمة. منذ الدولة العباسية كانت العملية تتم عن طريق شراء أطفال من دول أخرى كعبيد وتربيتهم بشكل معزول لهذا الهدف، سأعود لاحقا للتفصيل في هذا. اليوم ومع منع العبودية بشكل دولي لجأت الدول المعاصرة إلى طرق أخرى لمسخ هذه الكائنات. إحدى هذه الطرق هي عملية منظمة تقوم بها بعض أقسام الشرطة لمسخ بعض المجرمين واستخدامهم كعصا لا ترفض الأوامر. العملية كالتالي: شاب غالبا من عائلة فقيرة وظروف اجتماعية سيئة يقبض عليه في جريمة صغيرة. يقوم ضباط الشرطة بمساومته بحيث يخرج من السجن بشرط أن ينفذ ما يريدون. كأن يتحول لجاسوس لهم وتستمر عملية التهديد هذه ليعيش هذا الكائن تحت تهديد هذا الضابط طول عمره معزولا عن الناس بل عدوّا لهم. يبقي الضابط هذا الكائن عبدا له طول العمر ومع كل جريمة جديدة تترسخ هذه العبودية حتى تصبح هي الحالة الطبيعية لنصل إلى ذات الحالة التي تأسست منذ الدولة العباسية. اعترافات بلطجية مصر مثال صارخ على هذه الحالة.
دول أخرى تلجأ لوضع عصابات معينة تحت طاعتها مع السماح لها بعمليات معينة. في سورية مثلا يتمتع الشبيحة بغض النظر عنهم في عمليات التهريب في مقابل تنفيذهم لعمليات إجرامية لصالح أجهزة الأمن. يعيشون في مناطق معزولة نسبيا وأصبحوا يتوارثون هذه المهنة ويربون أبناءهم عليها. في المقابل نجد ليبيا مثلا شهدت حالة فريدة وهي استيراد عصابات من خارج البلاد لتنفيذ هذه المهمة. اللا انتماء هو العنوان الدقيق لكل هذه الجماعات وهو بالتالي ذات العنوان المعبّر عن حقيقة هذه الحكومات وهو ما سنحاول التعمق فيه أكثر في المقالات القادمة.