كشف "المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية المرموقة" الذي عقد في العاصمة الهولندية أمستردام منتصف هذا الأسبوع، عن وجود فجوة كبيرة بين كتّاب التاريخ سواء القديم أو المعاصر، وهي فجوة تحكمها النزعات والرؤى الشخصية في عملية تقييم التاريخ، بعيداً عن النظرة الموضوعية المجردة له، وابتعادا به عن الزخرف الأدبي أو الرومانتيكي، الذي يمكن أن يغير الحقائق، لجعل الصيغة التاريخية الجامدة مستساغة من قبل جمهور القراء، دون النظر بعين الواقع إلى أن هذا التاريخ إنما يمس وقائع شعوب بعينها، ولا يجب أن تتلاعب فيه الأيدي أو تحكمه الرؤى والأهواء الشخصية.
وأكد المشاركون بالمؤتمر أن كثيراً من المؤرخين يخضعون لحكايا الجدات القديمة، لتسجيل قصص عن الحروب أو المآسي التي تعرضت لها الشعوب، دون سبر أغوار الواقع وتسجيله بعيداً عن التزيين أو التزييف، وهو أمر خطير جداً، يبتعد بهؤلاء المؤرخين عن صفتهم الحقيقية ودورهم الحقيقي في تسجيل التاريخ كما هو، بمعنى تأريخ الواقع، ويضعهم في مصاف كتاب أدب التاريخ أو ما يطلق عليه في أوروبا "قصصية التاريخ" أو "التاريخ القصصي".
وأكد المؤتمر أن هناك تاريخاً ذا وجه خفي، لا يصل إليه كتّاب التاريخ، وهذا الوجه يشعل خيال هؤلاء الكتّاب، ويجعلهم ينسجون القصص والأساطير، التي تدور معظمها عن مغامرات الملوك والأمراء الخفية في الحب والحرب، وكثير من هؤلاء المؤرخين يعتمدون على الحكايا والأساطير في سرد التاريخ والقصص التي ترتبط به، على غرار حكايا الجدات في الحرب العالمية الثانية، والتي تم الاعتماد عليها كثيراً في كتابة هذه الحقبة من التاريخ كما هو الحال في هولندا.
وأشاد المشاركون في المؤتمر بعدد من كتّاب التاريخ المحايدين في العقد الأخير، وعلى رأسهم دان براون، سيخ لارسون، الأخوان كوليين وهليين فان روين، وقالت الكاتبة والمؤرخة سوزانا يانسن، وهي شريكة المؤرخ فرانك سترمان إبان مداخلتها في المؤتمر: إن التمييز بين عدم الاحتكاك الواقعي بالتاريخ والاحتكاك أمر مفيد لجمهور القراء والأجيال لعقد المقارنة، واستقراء الواقع والتاريخ، ولكن قد يحدث في الجانب الآخر نوع من الخلط والالتباس في الحقائق بين الواقع والخيال.
ووفقاً لأستاذ التاريخ في جامعة أمستردام جيمس كينيدي، فإن جمهور القراء يهتمون بقراءة التاريخ عندما يشوبه الشكل القصصي، ولكن ذلك التاريخ تحكمه النزعة الفردية، وعلى من يكتب التاريخ أن يضع في اعتباره أن الناس يبحثون في كتب التاريخ عن "من هم؟، أين جذورهم؟"، وعليه أن يوضح ذلك بدقة، مشيراً إلى أن كتابة التاريخ في الولايات المتحدة يعد نموذجاً من النماذج التي حكمتها النزعات الشخصية في فترة ما، ولكن هناك من نجحوا في إعادة تقييم هذا التاريخ.
وأكد كينيدي أن من يكتبون التاريخ عليهم ألاّ يتمسكوا بأن تكون كتاباتهم شيقة، وجاذبة لجمهور القراء بقدر ما تكون سرداً حقيقياً وتاريخاً للوقائع، لأن تزييف تاريخ الشعوب والخلط بين الواقع والأسطورة فيه يعد جريمة هائلة لا تغتفر.
وقالت كاتبة قصص التاريخ الهولندي جوديث كوليميجير، وصاحبة المؤلفات: "أين بندقيتي"، و"شجرة آنا"، و"صمت ماري زاشيا": أنا أكتب قصصي معتمدة على الخلفية التاريخية والحقائق الصحيحة، وعلى الرغم من ذلك اعتمدت على حكايا الجدات لكتابة قصص حول تاريخ ما بعد الحرب العالمية في هولندا، وكان يجب أن أستلهم من الجدات هذه الحكايا، لأن 40 عاماً كانت قد مرت على هذه الحرب، ولكني أقول للقراء إنها قصص ذات صلة بالتاريخ، وليست تأريخاً، فلا يجب الخلط.