ما معنى أن يعيش الإنسان مئة عام! يعني أنه رأى الأشياء ليس مرة واحدة، ولا اثنتين، ولا عاماً أو عشرة، بل مئة عام. صوته لم يتوقف مئة عام، سمع، ومشى، ولمس، وسافر في الأرض والسماء، عبر بحاراً وصحارى وغاباتٍ ليس لها عدد. غضب وبكى وضحك، أحب وهرب، وأثقلت روحه الكراهية، ضاع وآمن، نام في أماكن لا تحصى، واستيقظ في أماكن لا تحصى، شاهد جدراناً وحكوماتٍ تهوي، وشهد على حضاراتٍ وأممٍ تنتصر، غمس أصابعه في الحبر والأنهار، في رمل الشواطئ واللبن، ذهب إلى مقابر كثيرةٍ ليودع قريباً أو صديقاً أو حبيبة وهو يفكر متى سيأتي دوره، وأكثر من كل هذا بكثير يمكن أن يعيشه المرء في مئة عام.

http://www. youtube.com /watch? v=mZv-WT63y_E&feature =related

إرنستو ساباتو ولد في بوينس آيرس بالأرجنتين عام 1911 وعاش هذه التجربة، مئة عام بالتمام، قطع سنواتها طولاً وعرضاً حتى جاءت اللحظة التي وضع قلمه ونظارته وذكرياته وأشياءه، وترك لنا ثلاث روايات فقط، كل واحدة منهن أدهى وأعمق من الأخرى (النفق - أبطال وقبور - أبدون)، ترك للهباء قرناً كاملاً، ولم يخرج منه إلا بتابوته ومترين من الأرض، حيث رقد هناك في فراشه الأخير بهذا العام 2011. ساباتو حاوره كارلوس كاتانيا، في كتابٍ يصلح أن يكون اسمه عنواناً للقرن الذي عاشه ساباتو، وهو (إرنستو ساباتو بين الحرف والدم).

هذا الساباتو حمل شهادة الدكتوراة في الفيزياء، وانقطع للفن الذي يقول عنه: "إن محاولة فهم عمل فني هي - إلى حد ما - كالرغبة في اختزال الكراهية والحرب والحب والأحلام إلى مجرد أسباب خالصة. الفن يشبه الأحلام إلى حد بعيد. تلك الرسائل التي تأتي من أعماق لاوعينا: سخيفة، متناقضة، لاعقلانية".

وانظروا كيف هي نظرته، التي سبقت كل الثورات العربية، فالكتاب – بين الحرف والدم - صدر بالعربية في 2003 أي قبل هذا العام الهائج بثمان سنين.. يقول: "من الواضح أن الشباب يريدون تغيير هذا العالم الفاسد. الأسباب كثيرة: حروب مريعة من أجل قضايا دنيئة، أرقام عن الجوع تظهر في جميع الصحف ولا يمكن إلا أن تثير الاشمئزاز في نفوس الكائنات الأشد حساسية، شعوب مضطهدة. الأسباب كثيرة وردود الفعل ليست دائماً واعية... نيته تدمير قيم مجتمع تقوم إلى حدٍ بعيد على أساس من الامتيازات والكذب والفساد".

ساباتو يقول عن نفسه: "أعتقد أنني أنتمي إلى سلالةٍ تتلاشى. أؤمن بالمقاهي، أؤمن بالفن، أؤمن بكرامة الفرد، أؤمن بالحرية".