لا يوجد مجتمع مثالي، لكن قياساً بالتربية الدينية الشاملة التي يتلقاها مجتمعنا وبتكثيف شديد منذ ثلاثين عاماً؛ فالمفترض أن نقترب كثيراً من عالم المثالية، وألا يكون الشك والريبة هما الدافع الرئيس لنقد خيارات المجتمع، بمعنى آخر: فإن الترديد المتواصل لمقولة إن هذا مجتمع متدين وعلى خلق، وإنه أفضل من غيره بكثير لا يتوافق بالمرة مع الهجمة الشرسة على قيادة المرأة للسيارة، بل إن الهجوم يعتبر إقراراً ـ ضمنياً ـ بفشل وعظ الثلاثين عاماً المنصرمة، وكأنه لا يوجد لهذا الوعظ أي صدى على أرض الواقع، وهذا ظلم وإجحاف، وتعريض خطير كذلك بأن مجتمعنا ليس متديناً ولا يحزنون، بدليل الخوف عليه من الفتنة أكثر من غيره من المجتمعات فيما لو قادت المرأة السيارة، وكان المفترض أن تكون الثقة في المجتمع أكبر بكثير، فلماذا هذه "اللخبطة" إذن؟ وكيف يستقيم الهجوم على المجتمع والتشكيك فيه حينما تثار قضية قيادة المرأة للسيارة، والقول في نفس الوقت إنه مجتمع متدين ومحافظ؟ هذا تناقض بين ومستفز، خصوصاً أن من يذم ومن يمدح هم نفس الفئة تقريباً! فمع المرأة بالتحديد تُسقط ملائكية/ تزكية المجتمع المتدين والمحافظ، ويصبح الجميع على جرف هار من الضياع الأخلاقي والاجتماعي، لكن تلك الملائكية لا تلبث أن تعود ببساطة حينما لا يتعلق الأمر بالحديث عن المرأة وقضاياها، وكأنها وحدها من يلوث المجتمع ويخرجه من عالمه المثالي والناصع البياض، فهل رأيتم تناقضاً كهذا في أي مكان؟!
حسناً، هذه الرؤية القاصرة للمرأة والمجتمع تعني أن كل الأشرطة والمحاضرات والمخيمات الدعوية التي قام بها وعليها مشايخنا الكرام هي عبارة عن ترف طبقي لفئة معينة ومحدودة من المتلقين، أو صوالين أدبية لم تصل إلى قاع المجتمع، ولم تقوِ الوازع الديني لدى عامة الناس حتى يوثق فيهم وفي أخلاق نسائهم، وبهذا المنطق التشددي الأعوج فإن خلاصة الهجوم تقول أيضاً: هذا مجتمع لم يتعلم بعد ألف باء الدين في التعامل مع المرأة وقضاياها، ولا يغرنكم أنه يوصف بالمجتمع المتدين فهذا من باب المجاز، أومن باب ذر الرماد في العيون لا أكثر، أما الواقع فهو مؤلم تماماً، وأشد قبحاً مما تتوقعون؛ بالرغم من كل ما تعرفونه وما تعلمتموه! هذا هو مفهوم ما يقوله المتشددون في موضوع قيادة المرأة للسيارة، ولا أعتقد أن لديهم مفهوماً آخر، وإلا فلماذا كان التشكيك في المجتمع "المتدين" بهذا الشكل المخيف الذي نراه حالياً، وفي موضوع بسيط كقيادة المرأة للسيارة؟، وقد عبر أحدهم عن ذلك صراحة حينما وصف امرأة مسلمة بالفاسقة والمنحرفة لمجرد أنها قادت سيارتها في مكان عام، ووفقاً لهذا التشدد فمجتمعنا بكل ما فيه من ثقافة دينية شبه متكاملة لا يقوى على رؤية امرأة تقود سيارة في الشارع دون أن يسيء إليها، وبالطبع ففي ذلك تعريض واضح بدعاتنا الوسطيين وقبل ذلك بتعليمنا الديني كله. ويبدو أن المتشددين يريدون أن تصبح أسئلة الناس على النحو التالي: ماذا كان يفعل الدعاة إذن في الثلاثين عاماً الماضية؟ ولماذا لم يستطيعوا ربط المجتمع بمكارم الدين والأخلاق؟ وهل كانوا في واد والمجتمع في واد آخر؟ لنصل في النهاية إلى رؤية اجتماعية متشددة/ ضيقة فُصلت بالمقاس على مجموعة تعيش خارج العصر، وتفعل ما تشاء بمن يعيشون داخله. إذن المتشددون يريدون مجتمعاً مختلفاً يناسبهم وحدهم؛ حتى لو كان ذلك على حساب عامة الناس، ولا يهمهم ما يقوله الدعاة أو الواقع، طالما كانت كلمتهم هي العليا أو هكذا يظنون، وسيُنظر إلى مجتمع بهذه الأوصاف المتشددة على أنه مجتمع خطير جداً على أي امرأة تعيش فيه أو تأتي إليه! أو على الأقل هذه الصورة التي ستترسخ عنا أمام العالم، مع أن في الأمر سعة، والموضوع أصلاً لا يحتاج كل هذا الجدل البيزنطي العقيم.
إن كان مجتمعنا متديناً بالفعل فلا خوف على المرأة لا من قيادة السيارة ولا من غيرها، وإن لم يكن متديناً فنحن معكم نرفض أن تقود السيارة خوفاً عليها وحماية لها، فقط أقنعونا بواحدة، و "ارسوا على بر"!