إن الله الذي خلق الطرفين، وأنعم بالوجود على جانبي الخلاف والصراع، لم يلغ طرفا على حساب طرف، بل منح الوجود للطرفين، إلا أن الطرف الأول لا يرضى بهذا، بل يعمد إلى إلغاء الطرف الآخر وأحياناً بأسلوب (لأقتلنك)، فإذا قال الطرف الأول إن الله أوجدني ومنحني المشاركة يكون جواب الطرف الآخر (العملي): نعم إن الله منحك الوجود أما أنا فسوف ألغيك!

(إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه).

ومن الناحية العملية تفضي العقليتان إما إلى مجتمع مزدهر، أو إلى حرب أهلية مبطنة أو قائمة، فحين تترك العقلية الأولى المجال لهامش من الخطأ، وبالتالي قدرة المراجعة والنقد الذاتي، فإن هذا ينبني عليه التسامح مع الطرف الآخر، بل احترامه، بل حمايته، بل طلبه، لأنه مع جدلية الطرف الآخر يميل الطرف الأول إلى التصحيح، وتقويم الأخطاء، ولذا فإن الطرف الثاني يصبح ضرورياً، ليس فقط للفرملة والتوازن، بل ضرورياً لصحة الأول ودوام استقامته ونضجه، لذا كان على الطرف الأول ليس احترام وجود الطرف الثاني، بل أن يسعى لإيجاده إن لم يكن موجوداً، وليس على العكس إلغاءه إن كان موجوداً.

فرق رهيب إذن بين العقليتين...

العقلية الأولى تقوم على (ثنائية التفكير = الديالوج)، تفسح المجال للأخطاء، للنقد المضاد، للمراجعة الذاتية، للتسامح مع الطرف الآخر، لاحترامه لما فيه من خير عميم، ولحمايته لأنها بذلك تحمي نفسها بالذات لإيجاده إن لم يكن موجوداً لأنها تضمن وجودها باستمرار وجوده. وإذا اختلفت مع الآخرين، اتخذت بعين الاعتبار أن الموضوع لا يتعدى (خطأ في الفهم) يمكن إصلاحه بالحوار، والصبر عليه، و(قتل الموضوع بحثاً) وليس (قتل الإنسان إعداماً).

بل والاستعداد ليس لقتل الآخرين، بل أن تموت هي من أجل فكرتها، كي تحول القاتل ليس إلى بطل بل إلى مجرم.

ومفهوم الجهاد في الإسلام ينبع من هنا في حماية الإنسان بما فيه المخالف، حتى لا يبقى إنسان يفتن ويضطهد من أجل آرائه (حتى لا تكون فتنة) لأن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللا إكراه (لا إكراه في الدين) أي مجتمع حرية العقيدة.

العقلية الثانية ليس عندها قدرة المراجعة، ولماذا المراجعة طالما كانت تملك الحق المطلق؟ فمهمتها إذن محصورة في نشر ما تعرفه، وعلى الآخرين أن يحظوا بشرف الاستماع من مصدر المطلق!.

هي عقلية (أحادية التفكير = المونولوج) لا تقبل الاعتراض ولا تسمح به، فإذا قام اعتراض العقل كان شاذا غير مرحب به، فكان مبررا لتصفيته (ELIMINATION) وحذفه من الوجود غير مأسوف عليه، وهي على ما يبدو طريقة سريعة واقتصادية!

فلماذا الحوار الطويل في ساعات غبية تافهة، لمردود هزيل!

في حين أن طلقة واحدة و(كلمحٍ بالبصر) تحل المشكلة ودفعة واحدة!

(ألا ساء ما يحكمون).

والتهم جاهزة فإذا اختلف السياسيون تقاذفوا بـ (العمالة والخيانة) وإذا اختلف العقائديون كانت الجعبة أدسم فتراشقوا بـ (الهرطقة)، وما هو جزاء الهرطيق سوى القتل؟

العقلية الثانية تلغي الطرف الثاني إن كان موجوداً، وبكل حماس وإخلاص وطمأنينة بال، بأنها نفذت إرادة الوجود، كي تنفرد هي بالوجود.

إذن فالاتجاه الأول يوجد ملغى، والثاني يلغي موجوداً، وهذا هو الفرق بين العقليتين، وبالتالي هذا هو الفرق بين الحياة والموت، فلا يستويان مثلا.. من كان له أذنان للسمع فليستمع.