كيف تصمد الفكرة لعدّة قرون، رغم تقلّبات الظروف والمصائر، ويُحسَب أنها اندثرت وغابت مع أصحابها الأوائل؟.. أتصوّر أن الفكرة تتصلّب وتستعصي على الإزاحة، عندما تحتفظ بالأسباب التي أدّت إلى ظهورها فتعمل هذه على كمون الشعلة بانتظار الشرارة، لتبعث الفكرة ثانيّة فتيّة مستعيدةً قوّتها، وبالتالي تأثيرها وقدرتها على إحداث الفارق في الحياة وتصويب مساراتها.
فيلم "في فور فاندتا" ـ من بطولة هوغو ويفينغ وناتالي بورتمان ـ يعرض في أحداثه لفكرة التحرّر من السلطة الشموليّة والنظام المستبد. وذلك باتّكائه على حادثة مضى عليها أكثر من أربعة قرون بطلها الثائر غاي فوكس الذي أعدّ البارود لتفجير مبنى البرلمان البريطاني، لكنّ خطّته اُكتشفت وأُعدم مع زملائه المشاركين فيما سُمّي بـ "مؤامرة البارود".
فكرة التحرر لم تنطوِ مع غياب جسد غاي فوكس، عادت في القرن الحادي والعشرين مع شخصيّة "في V" الذي اتّخذ من غاي فوكس قناعا يخفي به وجهه طوال الفيلم؛ تعبيرا عن شكل الفكرة المتجسّدة والرغبة في استدامتها كطاقةٍ تحريضيّة تظلّ تذكر وتدفع بنيرانها الخاصة المشحونة بقيمة الثأر وما تمنحه من تأجيج يحرّض على استكمال "النار الناقصة" التي انوجدتْ وتجسّدتْ في شخصيّة البطلة "إيفي" التي عانت وذاقت الويل وحاق بها الدمار العائلي منذ طفولتها بقضاء السلطة المستبدّة على أبويها وأخيها.
السلطة المتغوّلة لا تحكم سيطرتها عبر صناديق الاقتراع والاختيار الحر والعقد الاجتماعي الذي يرتّب العلاقة بين الحاكم والمحكوم. إن سلاحها لإحكام قبضتها على الجمهور هو النظامُ البوليسي القمعي، وبثُّ حالة من الذُّعر تصوّر للناس أنّ الأمان تحت جناح السلطة، والتهديد أن بديلها هو الفوضى والتقسيم وتحطيم كيان الدولة ـ وتلك شنشنةٌ ما تزال تتردّد وتطرب لها الأنظمة الشموليّة ـ لهذا لا تتورّع عن تدبير المؤامرات الوهميّة وإحاطة المواطنين بالرعب الذي تتفنّن في تصنيعه من خلال مختبرات الأسلحة البيولوجيّة ومنتوجاتها التي تلوّث مصادر المياه ونشر الأوبئة المميتة، فيما تتظاهر بالحرص وتأمين الدواء والعلاج لما صنعته يداها المنقوعتان في دماء الناس.. هؤلاء الذين يعيشون وهم الحاجة إلى النظام وإلى حمايته.
التربية بالخوف، وفي ظله ينعم النظام بالاستقرار وينتعش بالفساد ضمن دائرة المنتفعين القليلة (رجال الحزب في الفيلم). إحدى الشخصيات تقول "يجب ألا تخاف الشعوب من حكوماتها. الحكومات هي التي يجب أن تخاف من الشعوب". ومن هنا تنكسر الحلقة المطبقة بالتخلّص من الخوف. ومن أجمل مشاهد الفيلم تلك التجربة التي خاضتها "إيفي" في الزنزانة يُختبر فيها جَلَدُها وتحمّلها ومقاومة الاعتراف بمكان "في" حتّى وهي تواجه رصاص الإعدام. هذه التجربة أعادتْ صياغتها وجعلتْها تعرف معنى "تجربة العيش بلا خوف". الأمر عينه كان مع "في" في نهاية الفيلم عندما انهال عليه الرصاص وسُئِل لماذا لا تموت؟ فأجاب أن خلف القناع أكبر من اللحم. إنما فكرة، والأفكار لا تموت.
هذه هي القيمة الكبرى؛ الأفكار الحيّة تغيّر شكل العالم.