شرط خروح مصر بسلام من المرحلة الانتقالية التي تمر بها، إلى مرحلة تكون فيها قادرة على تأكيد حضورها، محليا وإقليميا ودوليا، هو رهن لنجاحها في محاور ثلاثة: الأمن والسياسة والاقتصاد. في الأسبوع الماضي قمت بأول زيارة لمصر، بعد ثورة 25 يناير من هذا العام، كانت فسحة لمراقبة المشهد السياسي، ومتابعة ما يجري من تفاعلات اجتماعية وسياسية في مصر عن قرب.
في هذا الحديث سنحاول تسليط الضوء، بشكل مختصر، على المشهد الذي يتداعى الآن في أرض الكنانة، وطبيعي أن تكون المحاور الثلاثة، الأمن والسياسة والاقتصاد هي مركز المناقشة في هذا الحديث. وهذه العناصر، هي بالتأكيد متداخلة ليس بالإمكان الفصل بينها، وشرط نجاح أي عنصر منها متوقف على نجاح الآخر.
فعلى صعيد الأمن، وهو مطلب رئيسي ومشروع لكل شعوب الأرض، تمر مصر منذ 28 يناير المنصرم، اليوم الذي انسحب فيه الأمن المصري من المدن، بفراغ أمني واضح، أدى إلى شيء من الانفلات الأمني في المدن الرئيسية. يبدو ذلك في تصاعد نسبة جرائم السرقة والسطو في وضح النهار في العاصمة ومدن كبرى كمدينة الإسكندرية والإسماعيلية وبورسعيد. وتجسده أيضا الفتنة الطائفية المشتعلة بين متشددين أقباط ومسلمين.
في هذا السياق، يلحظ الزائر لمصر، تغيرا جذريا، في المزاج الشعبي المصري، فالناس العاديون الذين أبدوا امتعاضا في الماضي من تجاوزات أجهزة الأمن المصرية، يطالبون الآن بحضور أكثر قوة لهذه الأجهزة، لضمان أمنهم وسلامتهم. ويتهمون الحكومة الحالية بالتقصير في مجال تقديم مختلف أشكال الدعم للشرطة والمرور المصريين، للقيام بدورهما في حماية المجتمع، وتنظيم حركة المرور في المدن والشوارع الرئيسية.
هناك أيضا شعور عام لدى النخب المصرية، بأن هناك استهدافا خارجيا لبلادهم. ويدللون على ذلك بحادثة أمبابة، التي تسببت في احتراب عنيف بين الأقباط والمسلمين المتشددين. إن القصة كما يروونها، تقول بأن سيدة قبطية متزوجة من شخص قبطي، ولها منه ثلاثة أطفال، هربت مع عشيقها المسلم. وقام أهلها الأقباط باسترجاعها. وجرت اتهامات متبادلة بين المتشددين من الفريقين. فالمتشددون المسلمون يقولون بأن أهل السيدة القبطية أرادوا باسترجاعها ثنيها عن اعتناق الإسلام، بينما يرى الأقباط فيما حدث خيانة زوجية وتجاوزا للأعراف. يحكي المتشددون المسلمون رواية أخرى غير رواية الأقباط، لكن الأولى هي الأكثر شيوعا، خاصة وأن السيدة المذكورة خرجت على الشاشات التلفزيونية، وأعلنت اعتذارها من زوجها، وأكدت تمسكها بديانتها.
وإذا فالقضية برمتها، في الأصل قضية اجتماعية، ويمكن أن تحدث في أي من البلدان، بين أبناء الدين الواحد والمذهب الواحد. ونقلها من بعدها الاجتماعي إلى البعد الطائفي، قد حولها من قضية فردية إلى موضوع جمعي، كاد أن يتسبب في تعميم الفتنة الطائفية بين أبناء الوطن الواحد.
يوم السبت ما قبل الماضي، تصاعدت مطالب الأقباط بمحاسبة المتشددين الإسلاميين، واعتصموا أمام مبنى تلفزيون القاهرة (ماسبيرو) حتى تتحقق مطالبهم. وفي المساء بدأت مواجهة بينهم وبين متشددين إسلاميين، حاولوا الاعتداء عليهم في مكان اعتصامهم. حين عودتي مساء من حي الزمالك، شاهدت إقدام بعض المخربين على إحراق عدد من السيارات الخاصة التي تقف على ضفة النهر. وتدخل الأمن المصري، لإيقاف محاولات التخريب، لكن إطلاق الرصاص استمر لعدة ساعات، كان من السهل متابعة صداه من شرفة فندق سمير أميس الذين كنت أقيم به.
لم تحظ تلك الحوادث بتغطية إعلامية واسعة، من قبل أجهزة التلفزة المصرية، وأحسب ذلك أمرا متعمدا، يتواطأ فيه جميع المصريين. فتغطية هذه الحوادث من قبل الإعلام المصري، من شأنها أن تسيء إلى الموسم السياحي، الذي لا يتوقع كثيرون أن يكون على سابق قوته. والمؤشرات على ذلك كثيرة، ففنادق الخمس نجوم لا تزال معظم غرفها شاغرة، وتتطلع إلى شهور الصيف لكي تعوض عن خسائرها، في الشهور التي أعقبت الثورة.
والحديث عن الموسم السياحي، في مصر يقودنا إلى موضوع الاقتصاد. فالحكومة الانتقالية التي يقودها المجلس العسكري، تعمل على تشغيل "ماكنة" الاقتصاد في ظروف بالغة الصعوبة، وتفتقر إلى المصادر والرؤية الاقتصادية المستقبلية. ودورها راهني ومؤقت ريثما تتم الانتخابات البرلمانية ويقر الدستور، وصولا إلى انتخاب رئيس للجمهورية. والمجلس التشريعي المنتخب هو وحده الذي يملك صياغة المناهج السياسية والاقتصادية لمصر الجديدة. ومع ذلك، تعمل حكومة السيد عصام شرف على تأمين المال، من البنك الدولي لتسيير الماكنة الاقتصادية ومقابلة احتياجات الدولة. وفي هذا السياق، ترى حكومة شرف في المساعدة المالية التي قدمتها المملكة العربية السعودية، والتي بلغت الأربعة مليارات دولار، وأيضا في تعهد الرئيس الأمريكي، باراك أوباما بمواصلة المساعدة المالية، التي استمرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة تقديمها لمصر، منذ توقيع مصر مع إسرائيل على معاهدة كامب ديفيد، فرصة للمساعدة في عبور الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
على الصعيد السياسي، لا يبدو واضحا اتجاه البوصلة في المرحلة التي سوف تعقب الانتخابات البرلمانية والرئاسية. وتحتدم الصراعات السياسية الآن على ثلاث جبهات. الأولى جبهة تشكيل الأحزاب السياسية الجديدة. وتضم هذه الأحزاب قوى متنافرة في توجهاتها، جمعتها تجاذبات اللحظة، وعنفوانها وتجلياتها. وقد آن لها أن تحدد برامجها وخياراتها السياسية. والثانية، جبهة التنافس، للوصول إلى مقاعد البرلمان، والحماس في هذا الاتجاه غير مسبوق. فالكل لديه ثقة بأن الانتخابات القادمة ستعبر بصدق عن رغبة المصريين. والجميع يعمل على حصد أكبر حصة من مقاعد الانتخابات. والثالثة جبهة الانتخابات الرئاسية.
وتبقى هناك محطات أخرى في المشهد السياسي المصري، جديرة بالمتابعة والقراءة في أحاديث أخرى قادمة بإذن الله تعالى.