أحسن الفيلسوف الفرنسي (ديكارت) حينما اعتبر أن أفضل الأشياء توزعا بين الناس وبالتساوي هو العقل، لأن كل فرد يعتقد أنه أوتي منه الكفاية، فلا يريد المزيد ولا التغيير.
وعندما ينظر الإنسان إلى نفسه في المرآة فقد يشتهي أن يجعل أنفه أصغر، أو شفتيه أكثر حمرة، أو جسده أكثر رشاقة، أو قامته أكثر طولاً، ولكنه لا يفكر ولا للحظة واحدة أن يجعل عقله أفضل بناء، وأكثر نضجا، وأحسن توجيها.
ويصل ديكارت إلى تقرير حقيقة على غاية من الأهمية فيقول: (إن قوة الإصابة في الحكم وتمييز الحق من الباطل وهي في الحقيقة التي تسمى بالعقل أو النطق تتساوى بين الناس بالفطرة، وكذلك يشهد بأن اختلاف آرائنا لا ينشأ من أن البعض أعقل من البعض الآخر، وإنما ينشأ من أننا نوجه أفكارنا في طرق مختلفة، ولا ينظر كل منا في نفس ما ينظر إليه الآخر، لأنه لا يكفي أن يكون للمرء عقل بل المهم هو أن يحسن استخدامه، وإن أكبر النفوس لمستعدة لأكبر الرذائل مثل استعدادها لأكبر الفضائل).
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية فيمكن وضع قاعدتين عقليتين هامتين في الحوار والبحث تتولد منهما نتائج في غاية الخطورة في أرض الواقع، سلبا وإيجابا حسب الزحزحة العقلية.
1 - القاعدة الأولى تقول إنه يجب وضع ضوابط في أي حوار عقلي فنعتبر أن ما عندي صحيحا ويحتمل الخطأ، وما عند الآخر خطأ ويحتمل أن يكون صحيحا.
2 - وتقول القاعدة الثانية: وهي (آلية الفيلسوف الألماني ليسنغ) إن الرغبة إلى البحث أهم من امتلاك الحقيقة، لأن امتلاك الحقيقة الحقيقية المطلقة ادعاء وخدعة وتعطيل للجهد الإنساني وغير ممكنة لأنها ملك لله وحده فقط؛ فالعقل بين احتكار تفسير النصوص، أو تشغيله لفهم النصوص، فالأول يقع في مغالطة أن فهمه للنص يساوي النص، والثاني يتحرر بإدراكه أن فهمه للنص هو (كم) أقل من النص دوماً ـ وإلا أصبح هو النص ـ ويتناهى إلى الصفر، لا بل قد ينقلب تحت خط الصفر فيصبح سلبيا.
يقول ليسنغ: (لو أخذ الله الحقيقة المطلقة في يمناه والشوق الخالد للبحث عن هذه الحقيقة في يسراه، ومعها الخطأ لزام لي، وسألني أن أختار ، إذاً لجثوت ذليلا عند يسراه بكل تواضع، ثم قلت يا رب: بل أعطني الرغبة إلى البحث، لإن الحقيقة المطلقة لك وحدك).
والآن ما هي النتائج المباركة أو المريعة المترتبة على العقليتين والتفكيرين؟ هذا التحليل تترتب عليه نتائج خطيرة وعظيمة للغاية، فطالما رأت العقلية الأولى أن هناك هامشا للخطأ والصواب في الفكر الذي تحمله، فإنها تميل إلى المراجعة والنقد الذاتي، وبالتالي تفتح المجال أمام تصحيح الأخطاء والنمو والنضج، في حين أن العقلية الثانية تنبع منها نتائج مختلفة تماما؛ فطالما امتلكت (الحقيقة النهائية) فهذا يعني وبشكل آلي أنه ليس هناك هامش للخطأ، بل كل ما عندها صواب، وهذا يعني بالتالي أن لا حاجة للمراجعة، وبالتالي لا داعي لتصحيح الأخطاء إذ لا أخطاء، وكيف يخطئ من هو مقدس؟
إذن لا نمو ولا نضج، أي (لا حياة) وبذلك يُستل نور الحياة تدريجيا من هذه العقلية فتنتقل بالتالي إلى مرحلة توقف نبض الحياة، وبالتالي التجمد والتحجر والتحول إلى كائنات محنطة في متحف الحياة المتحرك.