إذا كان الشيء الوحيد الذي يقف بينك وبين الملايين، بل البلايين هو استنكار أو رفض الناس، لماذا لا تتجاهلهم وتقوم بما تريد، خاصة إذا كان بإمكانك شراء رضاهم وموافقتهم في وقت لاحق من خلال شيك بمبلغ خيالي هنا، أو تبرع ضخم هناك، أو حتى استخدام الإعلام من خلال الظهور على القنوات الفضائية تتحدث فيها عن سيرتك ونضالك في الحياة من أجل التأثير على الشباب ودغدغة أحلامهم في الثراء السريع بإمدادهم بالنصائح وإرشادهم إلى الطرق السريعة للوصول إلى أهدافهم؟! هذا للأسف أصبح إطار الأخلاقيات التي تحاصرنا في مجتمعاتنا العربية من الكثير من المشاهير والأثرياء، محليا وإقليميا وغربيا، والخطير في الأمر كما يقول ألبير كامو: "إن أي إنسان بدون أخلاقيات هو تماما كوحش أُطلق على الناس" من دون أن يشعر بأنه يقوم بأي عمل غير طبيعي!
ما ذكرته سابقا ليس سوى مثال بسيط لما يجري لثقافتنا العربية من تفكيك، من فوضى أخلاقية في مجالات عدة، منها الجشع والفساد والاحتيال والخداع والفساد السياسي وتبييض الأموال وتزوير الانتخابات، والمحسوبية، والأكاذيب، ونشر الفضائح على جميع أنواعها، ومخالفات الشركات، وإساءة استعمال السلطة، والابتزاز، والتخطيط والتدوال في الغرف الخلفية، والاتفاقيات التي تجرى تحت الطاولات وحتى الكراسي، نعيش صدمة بعد صدمة، بعد هذا كله هل لدينا مجال للدهشة؟ لا مجال لذلك فقد رأينا الطوفان الذي طغى على مجتمعاتنا العربية والذي تسبب في اختفاء الكثير من الأخلاقيات بل نستطيع أن نقول إنه استولى عليها، وهذا كله ليس سوى نتيجة حتمية لإهمال التدريب على الأخلاقيات وليس عرضها ونشرها وتدريسها، ما أتحدث عنه مرور الفرد بخبرات تعزز في داخله التعاطف والتفكير بمصالح الغير وأمنهم وسعادتهم، ما يفيدنا إن كان هنالك ضمير وإن كان هذا الضمير غير مُفعل!
ما يفجع حقاً أن هنالك من يؤمن بمقولة نتشه: "لديك طريقتك، ولدي طريقتي، أما بالنسبة للطريقة الصحيحة فلا وجود لها"! إذاً لنرمي عرض الحائط بكل المعايير الدينية والإنسانية للتعامل مع الغير ولنفكر فقط في أنفسنا، وما هذا سوى عبودية بكل معنى الكلمة، فبمحاولتنا التحرر من المعايير الأخلاقية نحن نتحول إلى عبيد للنفس البشرية، أي أنا ومن بعدي الطوفان! كيف؟ لنعطي مثالا ممن يعمل في مجال يجد أن ما يفعله ـ حتى وإن كان غير راض عنه ـ سوف يتسبب في خراب بيوت، خسارة أموال، أو حتى إراقة دماء بريئة، فيقرر البقاء في مكانه خوفا على لقمة العيش، أو لأن لديه مصاريف أسرة أو أقساط مدراس، من يتحكم بقراراته هنا..؟ إنسانيته، أخلاقياته أم عبوديته لنفسه؟! حين ننسى أن من خلقنا هو واحد أحد، وعليه فإننا متساون في الحقوق التي وهبنا إياها في العيش الكريم والأمن والأمان في أي مجال من مجالات حياتنا، وحين ننسى ما تعنيه لفظة إنسان.. نخسر إنسانيتنا، وهذا أمر جلل، لأننا بذلك نحول مجتمعاتنا إلى غابة، والبقاء يصبح للأقوى، من الذي يعتقد بأنه يستطيع أن يُطهر نفسه بعد أن يصل لأهدافه ببعض التبرعات هنا وهناك، وماذا إذن عمن حطم أو شتت أو حتى تسبب في قتله وهو في مسيرته للقمة؟! والمبكي والحارق أيضا أن هنالك من بيننا من لا يزال يؤمن بأنه إذا كان على حق أو على صواب، أو أن معلوماته من مصادر ـ حسب ظنه ـ موثوقة، إذن هو لن يخطئ، وهذا يا سادة ما يسمى بالكبرياء القاتل، قد يتعامل معك من منطلق أدبيات الحوار، ولكنه أيضاً قد يهاجمك بشراسة ناسيا أو متناسيا جميع أخلاقيات الحوار، معطيا لنفسه هذا الحق بما أنه مؤمن أنه أصلا على حق، أي تجرد من كل معايير الأخلاقيات الأخرى لمجرد أنه على حق!
إذا كان هنالك بيننا من يعطي نفسه أحقية أن يتعدى على غيره من البشر، إذا فمن المسؤولية الأخلاقية أن نقاوم، ليس على مستوى أخلاقياته بل بناءً على معايير وأخلاقيات وضعتها لنا كل الشرائع السماوية في التعامل مع البشر حتى مع من يتعدى علينا، بالسبل الحضارية والمتاحة قانونيا دون اللجوء للشوشرة وبث الفرقة والفتنة بين الناس، ولكي نصل إلى ذلك يجب أن نعمل جميعا على إعادة بناء توافق اجتماعي، على مستوى مجتمعاتنا العربية، في الآراء حول الأخلاقيات السليمة والمتماسكة حتى نستطيع أن نفكر في الطرق التي نستطيع من خلالها إعادة غرسها وعلى نطاق واسع، لدينا الأسرة والمساجد والمدارس ووسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وغيرها كثير، والتحدي هنا ألا نستخدم من لا يعرف أصلاً كيف يتعامل بهذه الأخلاقيات فليس كل من حمل قلما أو قدم برنامجا أو ترأس مؤسسة تعليمية أو خدمية أو تجارية أو حتى دخل سلك التعليم يعرفها أو يطبقها، السؤال كيف نختار ومن نختار كي لا نقع في دوامة من يقدم نفسه على أنه شيء وفي حقيقة الأمر تفكيره وسلوكياته الخاصة في اتجاه آخر! ما يجب فعله هو تقوية قدراتنا الاستشعارية على التفرقة بين الخير والشر والصواب والخطأ، لنجعل هذا هدفنا في الحياة، الالتزام بالطريق الصحيح والقيام بما هو في مصلحة الناس رغم الإغراءات الكبيرة والحوافز المؤثرة التي تدفعنا للقيام بما هو خطأ، الإصرار على فعل ما هو في مصلحة الناس، هم بشر مثلي ومثلك، خلقهم ربي وربك، إله واحد بيده الثواب وبيده العقاب.