على الرغم من أن العراق كان منبتا للعلماء والأدباء والفقهاء والنحاة، وكل المبدعين في شتى المجالات، إلا أنه كان أيضا رفيقا للعذابات التي ما فتئت تفارقه، حتى احتلاله وإسقاط نظامه في عام 2003.
قلة هي بقاع الأرض التي تتوأمت مع الحزن وفتحت صدرها للألم على مد العصور كما هو العراق، فاستحال عاصمة للحزن، وموئلا للجراح، والتصقت أخباره في أذهاننا بالتعب والمعاناة، وارتبط فنه بالحزن والشجن وسِحر المواويل، حتى ظننّا أن دجلة والفرات تسيل بدموع العشاق، وأن النخل ينمو على جنبات النهرين لمؤانسة الساهرين مع مواويل ناظم الغزالي، وموشحات القبنجي، وعذوبة فاضل عواد، وحنين سعدون جابر، وآهات كاظم الساهر، ومقامات فريدة محمد علي، وغيرهم ممن حفظوا للفن العراقي هويته.
كانت النكبات لا تزيد الفن العراقي إلا أصالة وتمسكا بالتراث، إلا أنه في محنة العراق الأخيرة التي بدأت باحتلاله، فقد الكثير من نكهته، وغابت عنه روحه التي طالما تميز بها، فخرجت لنا "البرتقالة" التي لا طعم لها، وصولا إلى "بس بس مياو" وأغانٍ لا يعنيها العراق ولا ما يمر به، بل هي مجرد ثرثرة "ماسخة".
محزن ما يحدث الآن على ساحة الفن العراقي، ولكن سنعزي أنفسنا بما كان يجود به العراق من فن حقيقي.
للأسف، فأنا لا أكاد أشعر أن هناك فنانا واحدا، ممن ظهروا بعد سقوط النظام العراقي، استطاع أن يحمل على عاتقه الموروث الحقيقي لأسلافه.
لذلك فعندما يعاودك الشوق لسماع ما جادت به دجلة والفرات من فن حقيقي، فما عليك إلا الاستماع لسحر المواويل بكل أصالتها كما كان يؤديها ناظم الغزالي، وعندما تكون بعيدا عن ديار الأهل والأحبة، فليست هناك مقطوعة موسيقية، تثير الحنين في داخلك كما هي "يا طيور الطايرة" لسعدون جابر. ولبغداد حضور مغرٍ ومشوق كما كانت في أغنية "كثر الحديث" لكاظم الساهر، وإن أردت استحضار الأجواء البغدادية البسيطة فاستمع لـ"تتبغدد علينا".
كبير هو العراق، ومؤلم غياب فنه الضارب في التاريخ.