يمكننا أن نتفق أو نختلف حول قناة (العربية) أقصد حول توجهها ومدى حياديتها، لكن لا أظن أحدا يستطيع أن ينكر مكانتها الكبرى المؤثرة في الواقع العربي من الماء إلى الماء، ولا أحد يستطيع أن ينكر نجاحها المشهود سواء اتفق معها أو اختلف، وسواء اعتبرها مهنية حيادية، أو وصمها واتهمها بخدمة أجندة معينة، فالكل المختلف والمتفق، والمُبرئ والمُتهم، كلهم يشاهدونها وهذا هو الهدف الأول الذي حققته القناة بكفاءة واقتدار، وحين أقول هذا فأرجو ألا يظن أحد أنني أقلل من شأن منافستها وسابقتها العتيدة قناة (الجزيرة) فهي في ذات الميدان والمميزات المهنية وهناك من يفضل هذه ومن يفضل تلك، ومعنى هذا أنهما أصبحتا فرسي رهان، فمع أن العربية بدأت مقلدة لـ(الجزيرة)، إلا أنها منذ تسلم عبدالرحمن الراشد لدفة قيادتها أخذت تبتني لنفسها هوية وسياسة مستقلة مما مكنها من أن تكون منافسا حقيقيا مُزعجا يتفوق في أحيان كثيرة، وسط غابة من الأسلاك العربية الشائكة المنصوبة في كل زنقة، وما قلته عن موقف المتلقين من القناة نفسها يمكن أن أقوله عن مديرها العام عبدالرحمن الراشد فسواء تم الاتفاق معه أو الاختلاف، وسواء تم النظر إليه ببراءة أو بكم هائل من التهم، فلا أظن أحدا يستطيع تجريده من كونه صحفيا كبيرا وكاتبا مرموقا، وإداريا متميزا وهذه الميزة الأخيرة هي ما يهمني اليوم حيث لم أكن أعرفها عنه لكنني في زيارتي الأخيرة لدبي ولمكاتب القناة عرفت سر نجاح الراشد في بناء الهوية المستقلة للقناة الكبرى.

لقد كنت أحد شهود انطلاقة بث القناة إذ كنت آنذاك مستشارا لم تطل فترة عمله أكثر من شهرين، لكنني استطعت أن أعرف تركيبة العاملين في القناة ومستوياتهم وخبراتهم، وفي زيارتي الأخيرة لم يدهشني أن معظم أولئك الذين بدأت بهم القناة قد تغيروا فأنا أعرف أن الهوية المستقلة لم تتحقق إلا بتغيير العقليات التي تدير وتنفذ آلية العمل اليومي، لكن الذي يثير الإعجاب أن القناة استقطبت ودربت وأهلت عددا كبيرا من الشباب من الجنسين، ومنحتهم الفرصة، وأهم من هذا غرست فيهم عشق المهنة والولاء المطلق للقناة، والسر هنا يكمن عند الراشد الذي يتحدث عنه هؤلاء الشباب بمحبة وتقدير كبيرين، ويعتبرونه أخا أكبر لا مسؤولا، ويروون تجاربهم معه ومع العمل بكثير من الحميمية والفخر، ومع أن العاملين في القناة يعبرون عن أجمل وحدة عربية، إلا أنني بالصدفة تعاملت والتقيت ثلة من الشباب السعودي النابه الذين يعد ناصر الصرامي (أحدث العرسان العرب) أكبرهم سنا وأنموذجا يضرب به المثل في مستوى التأهيل المرموق، وهو تأهيل لا يقل فذوذية وألمعية عن فارس بن حزام وأحمد الطويان ومساعد الثبيتي وعدنان السوادي وغيرهم كثير من الجنسين في مختلف الأقسام والنشاطات ممن لم تسعفني ذاكرتي المهترئة في حفظ أسمائهم التي ليس من الفطنة نسيانها فهم نجوم الغد الذين يستعدون للانطلاق في فضائه متسلحين بمواهب وخبرات وأخلاقيات مهنية متقدمة ومتحضرة، والطريف أنك لا تستطيع أن تعرف في أي قسم أو تخصص يعمل كل منهم، ليس لأنه لا توجد تخصصات ولا أقسام، ولكن لأن روح الأسرة الواحدة الطاغية على القناة تجعل من يلتقيهم لا يدري أين الرئيس وأين المرؤوس، بل إن من يلتقيهم مجتمعين وهو لا يعرف مسبقا أن عبدالرحمن الراشد مدير عام القناة فإنه يصعب عليه تمييزه بينهم، وهذا هو سر النجاح، وبهذا يكون الزميل الكبير عبدالرحمن الراشد قد جمع مجد المهنة من أطرافه الثلاثة صحافة وكتابة وإدارة، وللذين يظنون أن هذا الوضع طبيعي معتاد أقول لهم مع بالغ الاحترام: أنتم لا تعرفون "البالونات" التي تقود معظم المؤسسات الإعلامية في الوطن العربي كله. ولن أنسى أن أقول ختاما: هداه الله ووفقه فقد كان أبوه رجلا فاضلا وكانت بيئة نشأته نقية محافظة، وهذا السطر الأخير رسالة خاصة لعبدالرحمن شخصيا فلن يفهمها سواه.