الثقافة هي التي تشكل توجهات أي نظام حاكم، وطريقة تعاطيه مع ما حوله من الأحداث والمواقف والبشر؛ مثلما تشكل أيضاً بقية مناحي الحياة في أي مجتمع، وبالتالي فهي التي تصنع لك نظاما عادلاً أو ديكتاتورياً محنطاً يعذبك طوال حكمه؛ وما لم تتغير هذه الثقافة الصانعة، وأعني بها هنا ثقافة "الهتيفة" الراسخة الجذور في مجتمعنا العربي؛ فلن يستفيد الثوريون شيئاً من كل ما يحدث؛ بل ربما يأتون بطواغيت ألعن يهتفون لهم فينحرفون ـ كالعادة ـ عن جادة الصواب كما حصل ويحصل منذ أربعين عاماً أو يزيد، ومن ثم "تعود ريما لعادتها القديمة"، ويبقى التغيير مجرد إتاحة فرصة لقامعين جدد، وبوسائل وأسماء جديدة لا أكثر؛ ففي النهاية كل الحكام الذين أطيح بهم اليوم، وكذلك الذين نراهم يترنحون جاؤوا أصلاً من مجتمع واحد هو مجتمع الهتيفة العربي؛ بكل ما فيه من أمراض وآفات مزمنة تعيش خارج العصر والتاريخ، ولا بد أنهم تأثروا بثقافة مجتمعهم التي تعلي من شأن البطش والقوة، وتُجبر الضعفاء على الهتاف المتواصل لمن هو أقوى؛ حتى لو كان على غير حق، وعندما وصل هؤلاء إلى الحكم طبقوا ما تعلموه أو ما تأثروا به حرفياً؛ مع بعض الزيادات المستوردة.
القائمون على أنظمة الحكم الدكتاتورية لا تختلف ثقافتهم كثيراً عن الثقافة التي يتشارك جميع العرب في عبها يومياً، وإن بدرجات وظروف مختلفة. صحيح أنهم أوغلوا في الطغيان؛ لكن الصحيح أيضاً أنهم منا وفينا، وأن القرص من نفس العجين، وكما تكونون يولى عليكم، وقبل وصولهم للحكم ربما هتفوا لمن كان قبلهم، وهذا مؤكد لسبب بسيط، وهو أن ثقافة المجتمع العربي ومنذ عقود طويلة لا تمكن المبدع ـ في الغالب ـ من تحقيق أهدافه ما لم يهتف ويطأطئ ويستكين؛ فما بالك بمن يحلم بالوصول إلى السلطة؟!
إنها ثقافة نفاقية شائنة طالما أوردت العرب المهالك، وجعلتهم في مؤخرة الأمم، وقد عبر عنها بوضوح لا لبس فيه أحد الشعراء القدامى عندما قال "ما شئت لا ما شاءت الأقدار" و كان يعني بالطبع حاكماً بأمره يشبه هؤلاء، أو ربما هو أسوأ منهم.
ما يحدث اليوم ببساطة هو تغيير أنظمة، ووجوه، ومجاميع ناهبة؛ لا تغيير فكر وثقافة، والفرق بينهما كبير جداً، ولن يجدي مع وضع كهذا لا دستور ولا قوانين، ولا مهرجانات انتخابية، وستبقى الأمور شكلية؛ ما لم يتغير الإناء الصانع والمشكل للتوجهات العامة وهو الثقافة، وهذا يعني أن القادمين الجدد لن يكونوا أحسن حالاً من الراحلين، أو على الأقل لن يكونوا بالقدر الذي تطمح إليه الشعوب الثائرة، التي تتصور حتى اللحظة أن الثورة تجب ما قبلها، وأنه لا خطورة من كل ما سيأتي طالما تغيرت الأنظمة القمعية، وعليه فقد يحتاج العرب إلى عقد أو عقدين للانقطاع التام عن كل موبقات أجيال الهتيفة؛ الذين رسخوا الهتاف كثقافة مستساغة بل وطبيعية في المجتمع العربي لا غنى عنها. إذ من الصعب تغيير الثقافة بين عشية وضحاها، وعلى الأقل ستبقى آثارها لدى المنتفعين المعتادين من كل نظام، وهم أس وأساس بلاء بني يعرب عبر التاريخ، ولذلك فإن الإيغال في النشوة الثورية كما هو الحاصل اليوم لا يعني بالضرورة أن الأفق الجميل يفتح أحضانه، وأن المجتمع العربي بدأ يفكر قبل أن يهتف، أو أنه تحرر إلى الأبد من الطغاة والمستبدين؛ بقدر ما يعني أن "اليوم خمر وغداً أمر"، والخوف كل الخوف من أمر العرب لا من خمرهم ونشوتهم! وهنا يصبح السؤال: هل تغير مجتمع الهتيفة الذي اعتاد العرب عليه حتى يتفاءلوا بأنظمة أخرى أكثر رقياً ومواكبة للعالم والعصر؟ وهل سيتوقف عرب الثورة عن ممارسة رذيلة الهتاف الجماعي مع أنظمتهم الجديدة؟ أم أنهم سيهتفون لفلان أو علان قائلين هذه المرة؛ إنه قائد المرحلة الذي جاء بعد الثورة ووضع البلاد على درب الأمان؛ لتستمر نفس المأساة؟ قد يبدو السؤال سابقاً لأوانه، وربما نحتاج إلى جيل أو جيلين حتى تنقرض ثقافة الهتيفة وتتضح الصورة، ونعرف إلى أي مدى وصل التغيير؛ لكنه في نفس الوقت سؤال اللحظة الفارقة والمفصلية، لمن أراد التأسيس لوعي جديد لا يحمل في جرابه خطايا الآفلين، وما أكثرها!