الثورات والاحتجاجات العربية المتلاحقة والمتسارعة على امتداد الوطن العربي لم تعط فرصة ولو بسيطة لالتقاط الأنفاس، سواء للثوار والمحتجين أو للنظم، أو حتى للمراقبين.
في السابق، كنا نشهد كل عقد أو اثنين ثورة هنا، أو أزمة هناك، ولكن هذه الأيام تسير الأمور والأحداث وفق "متوالية هندسية" متسارعة جداً، وتتلاحق الأحداث والتداعيات والارتدادات بشكل خطير وغير مسبوق، ليس على الصعيد العربي فحسب، ولكنه كذلك على الصعيد العالمي أيضاً.
أسئلة كثيرة جداً أفرزتها كل هذه الثورات والاحتقانات العربية المتسارعة والتي غطت غالبية العالم العربي.
لماذا قامت كل هذه الثورات في هذا الوقت بالذات، وبهذا التزامن والتعاقب كما لو كانت منسقة ومجدولة؟
لماذا غابت القيادات التقليدية والتاريخية عن مسرح الأحداث في غالبية هذه الثورات؟
هل الجماهير هي من تقود هذه الثورات، أم هو الفكر الثوري الذي استعاد بعضاً من وهجه وعنفوانه؟
بماذا يُفسر هذا الصعود الكبير للشباب في خضم هذه الثورات؟
لماذا أطلق عليها ثورات الإعلام الجديد المتمثل في الفيس بوك والتويتر والواتس اب، وغيرها من الوسائل والوسائط المختلفة للإعلام الجديد، في حين تم إغفال كل ذلك الإرث النضالي التقليدي والتاريخي؟
هل دشنت هذه الثورات العربية عصر الديموقراطية وأعلنت نهاية الديكتاتورية؟ وأسئلة كثيرة أخرى صاحبت هذا الجدل واللغط السياسي والثقافي والفكري حول هذه الثورات والاحتجاجات العربية المتلاحقة.
وعلى مستوى آخر، طفت بعض العبارات والشعارات والمصطلحات الجديدة على سطح المشهد السياسي العربي في هذه المرحلة الصعبة والحرجة من عمر هذه الأمة التي قُدّر لها أن تعيش دائماً فوق صفيح ساخن، بل وملتهب.
عبارات وشعارات لم تكن متداولة في أدبيات الشارع العربي، فضلاً عن المزاج العام للمواطن العربي المسحوق، كشعار "الشعب يُريد..."، وهو كما يبدو، شعار لم يكن مستخدماً، لأنه غير موجود أصلاً في قاموس النظم العربية.
نعم، "الحاكم يُريد...."، "النظام يُريد...'' ومثيلاتها من الشعارات المألوفة كانت رائجة وتُسوق صباح مساء في وسائل الإعلام العربية.
"المتحولون"، مصطلح جديد أيضاً أفرزته هذه الثورات للتعريض والتشهير بشريحة واسعة من "تجار شنطة" الولاءات والقناعات والكراسي، هؤلاء المتحولون من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار تبعاً لموازين القوى، أو وفقاً لمصالحهم الشخصية الدنيئة.. لقد كانت هذه الظاهرة المشينة بمثابة انتهازية سياسية وصفاقة أخلاقية لا مثيل لها، وهي على كل حال غير مستغربة من هؤلاء، ولكن الذي يُثير الدهشة ويدعو للاستغراب هذا القدر العجيب من التسامح والصفح والنسيان الذي تُبديه الشعوب العربية تجاه هؤلاء المتحولين، البعض يراه قمة في الرقي والتحضر والنبل، بينما يراه البعض الآخر منتهى السذاجة.
أيضاً، أسقطت هذه الثورات والاحتجاجات الكثير من المسلمات والثقافات والمفاهيم والقيم التي كانت مسيطرة على واقع المجتمعات العربية، وحلت محلها منظومة جديدة ومغايرة تماماً كشفت زيف وخداع ذلك الإرث القديم، ومنها السقوط المدوي لكذبة الإعلام الحر والمحايد الذي تتشدق به غالبية المؤسسات الإعلامية الخاصة. لقد فقدت الكثير من مصداقيتها وشرفها المهني، فهي تارة تُساهم في إشعال وتأجيج ثورة هنا، وتارة أخرى تُخمد أو تتغافل عن ثورة هناك.
حاولت في هذا المقال أن ألتقط بعض الأدبيات والتمظهرات الجديدة التي رافقت هذه الثورات والاحتجاجات التي اجتاحت وما زالت العالم العربي، مبتعداً عن الكتابة التنظيرية والتحليلية المتسرعة التي يُمارسها البعض، فالوقت ما زال مبكراً لمعرفة أهداف وحقيقة ونتائج هذه الثورات.
لابد من الانتظار قليلاً أو كثيراً ـ الله أعلم ـ لكي تنتهي كل المؤثرات العاطفية والانفعالية التي تُسيطر على فكر ومزاج المجتمعات العربية.
قد يحتاج الأمر إلى عدة شهور، أو عدة سنوات لكتابة القصة الكاملة لكل هذه الثورات والاحتجاجات العربية التي لم يجف حبرها بعد.