رصدت جامعة الملك عبدالعزيز مبلغ خمسمئة ألف ريال جائزة لأي طالب أو أستاذ ينشر بحثاً في مجلة علمية محكمة.. وقال مدير الجامعة إن الهدف من هذه الخطوة ليس رفع تصنيفها بين الجامعات وإنما هو ترجمة لجهودها في مساعدة منسوبيها لخدمة المجتمع. وبغض النظر عن الهدف الذي دفع بالجامعة إلى هذه الخطوة فإنه من المؤكد أن البحث العلمي أحد المهام الأساسية للجامعات لأنها البيئة الطبيعية لهذا النوع من نشاط المجتمع وهي المحاضن الأصيلة لأبنائها القادرين على العطاء في حقل الأبحاث والابتكار والأفكار الخلاقة. وهي المسؤولة عن قيادة المجتمع للتواصل مع لغة عصره ومواكبة سباق التقدم الذي يضمن للوطن استثمار قدراته البشرية بما يحقق الرخاء للمجتمع. ونحن بلد نام ماتزال غالبية حقوله وقطاعات نشاطه في حاجة ماسة إلى البحث العلمي ووضع الأطر والمقاييس التي يقيس بها تقدمه في كل حقل. وإذا كنا في حاجة ماسة إلى الأبحاث التطبيقية فهذا لا يعني أننا لا نحتاج إلى الدراسات والأبحاث في العلوم الإنسانية التي تعنى بدراسة الواقع الاجتماعي ورصد المتغيرات الحادثة ومدى "انحرافنا" عن مسار التنمية الحقيقية. والأبحاث الجامعية – التطبيقية والنظرية- مهمة في حد ذاتها لكنها تزداد قيمتها حين تخرج من حرم الجامعات إلى "الحياة" فتتصل بالصناعة والاستثمار وتتفاعل مع حاجات المجتمع لتساعده على وضع أولوياته وتوجيه طاقاته بصورة علمية تنعكس على نتاجه..

وقد شهدت السنوات الأخيرة – مع موضة سباق التصنيف – اتجاه الجامعات السعودية إلى العناية بالبحث العلمي ورصد المبالغ لتشجيع النشر في المجلات العلمية.. وقد قيل الكثير في هذا الاتجاه بين مشكك ومشجع، وتناوله بعض القريبين مما يجري داخل الجامعات وعلقوا على الدوافع التي تقف وراء هذا "الحماس" الطارئ.. وتساءلوا: لماذا لم تلتفت الجامعات إلى هذه المسؤولية الأساسية قبل هذا؟ وهل ما يجري الآن من اهتمام يشير إلى إستراتيجية ورؤية مستقبلية واضحة أم هو "طفرات" تحركها طموحات شخصية لبعض مديري الجامعات من عشاق الأضواء وخبراء الصعود على سلم المجتمع؟. وقد عرفت الساحة بعض "الفقاعات" العلمية التي لا تتحمل رياح البحث العلمي الجاد، ولا يزيد عمرها عن فترة الاحتفال بها فتغيب في دهاليز الملفات وتنساها الذاكرة رغم ما صرف عليها من أموال.

لا شك في أن علاقة الجامعات بمحيطها الاجتماعي شهد تحسنا ملحوظا في الفترة الأخيرة نوعا وكما لكن ما يزال في حاجة إلى تسريع وتعميق وتيرته والاقتراب أكثر من قطاع الصناعة حتى تشارك الجامعات في وضع أولويات الصناعة الملائمة لواقعنا وتقديم الدراسات الاستشارية التي تساعد أهل الصناعة على توفير الوقت واختصار الطريق دون الدخول في منافستها فالجامعات ليست مكانا للصناعة وليس من مهامها إقامة الورش وإدارة العمال والدخول في دهاليز التمويل وأساليبه، هذا ليس مكانها الطبيعي وإذا "تورطت" فيه فسيشغلها عن دروها الأساس الذي هو البحث العلمي وتوليد الطاقة في شرايين الإنتاج والبيئة الصالحة لبنات العقول المنتجة، وغيابه أو الاستهانة به يؤدي إلى "تصحر" الجامعات وتحولها من صرح يتطلع إليه المجتمع ويرجو نفعه إلى "هياكل" خاوية تتحرك فيها أشباح تسمى أساتذة وطلابا ومفرخة تدفع بآلاف الشباب غير المؤهل إلى الحياة، فإذا ضعفهم يزيد من وزن تخلف المجتمع فيظل في اتجاه الانحدار.

وحتى تكتمل دائرة الجامعة، وتنهض بمسؤولياتها فإنها تحتاج إلى أن تزاوج، بصورة علمية، بين"شروط المعرفة" ومقتضيات واحتياجات المجتمع، وحينها – فقط- نستطيع أن نخرج أفراداً قادرين على أن يسهموا بعلمهم في تطوير مجتمعهم، أما إذا انفصل "شرط المعرفة" عن حاجة الناس فإن هذا "الانفصام" ستزداد مساحته وتزداد خيبات الأجيال القادمة.

وإذا تجاوزنا الدور الأول للأستاذ الجامعي وهو نقل المعارف وترجمتها في سلوك ومناهج إلى عقول طلابه وإكسابهم مهارة الحصول على المعرفة في مجال تخصصهم فإن دوره الثاني هو: إثراء الحياة الفكرية والعلمية في مجال تخصصه من خلال التأليف والأبحاث.. وهنا نسأل بتجرد ومحبة ومظنة الخير في الجميع: ما هو مستوى عطاء الأستاذ الجامعي السعودي في هذا المجال؟ ليست لدي إحصاءات ولا أرقام ولكنني لست منقطعاً عن المجتمع ولي صلة بالعديد من الطلاب في تخصصات مختلفة – على الأقل في العلوم الإنسانية التي يمكن أن أدعي أن لي صلة بها – والمعلومات المتاحة في هذا الصدد ليست في صالح أستاذ الجامعة، في عمومها، فحركة التأليف، من حيث الكم والنوع ضعيفة، والترجمة الأصيلة العميقة أكثير ضعفاً وأقل شيوعاً.. ومن أراد أن يطمئن إلى هذا "الادعاء" فعليه أن يذهب إلى أرفف المكتبات التجارية والعامة الكبرى، ليتأكد من مساحة مساهمة الأساتذة الجامعيين السعوديين في مجال تخصصهم.. مرة أخرى أتحدث عن بعض العلوم الإنسانية (اللغة وآدابها والإعلام ووسائل الاتصال) وحسب معلوماتي فإن الأقسام العلمية لا تقل فقرا عن المجالات الأخرى. يقول التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية إن من بين 2124 جامعة ومراكز أبحاث يوجد 23 جامعة عربية فقط، أي حوالي 1%. ومن بين هذه الجامعات توجد 4 جامعات سعودية (9% )، في حين توجد في فلسطين المحتلة (إسرائيل) وحدها 16 جامعة في الألف الأول في العالم مقابل 5 جامعات عربية. ويشير التقرير إلى أن من مظاهر معوقات البحث العلمي في المنطقة العربية اهتمام الكثير من الجامعات بنشاطات غير علمية (تعليمية، إدارية) كما تعاني مراكز الأبحاث من "الترهل وغياب المناخ البحثي الملائم وارتفاع المستوى العمري للباحثين وعدم القدرة على استيعاب الشباب".

وإذا تساءل البعض عن رضا المجتمع عن قوة جسر التواصل بين صناع المعرفة (الجامعات والباحثين) وبين المؤسسات والشركات فلن تكون الإجابة بالتي ترضي جامعاتنا. ويظل السؤال قائما: ماذا فعلت في هذا الاتجاه؟ . ماذا فعلت لإغراء الشركات الوطنية للاقتراب منها واستغلال واستثمار نتائج أبحاثها وإنتاج اختراعاتها وأبحاثها؟