قال أستاذ أصول الفقه المشارك في قسم الدراسات الإسلامية والعربية في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن الدكتور مسفر القحطاني: إن دور الخطاب الإسلامي الإصلاحي المعاصر بات أمراً ضرورياً لعرضه على مشرط النقد والتقويم بعد سعة شريحة التلقي، وتغيير طبيعة الصراع، وتنامي عولمة الانفتاح، ولا أريد أن يُفهم هذا النقد على أنه استجابة لموضة نقد الإسلاميين.
وأوضح القحطاني خلال محاضرته: "سؤال النهضة في أدبيات الخطاب الإسلامي المعاصر" بأدبي الشرقية، مساء الثلاثاء المنصرم، أن الملاحظات النهضوية والحضارية تتلخص في: استنزاف الصراعات كثيراً من طاقات الحركات الإسلامية، بحيث صرفت العديد من مجهوداتها، وأدّت في المحصلة إلى تغوّل الجانب السياسي على طبيعة أدبيات واهتمامات هذه الحركات، وأصبح الخطاب الأيديولوجي هو المهيمن على تفكير أبنائها، وغابت مسألة النهضة والحضارة عن طبيعة الوظيفة الاجتماعية للحركات الإسلامية، وعلت جدليات التعامل مع الأنظمة، فالحركات الإسلامية قد تسمّرت في مشروعها التغييري عند لغة الأيديولوجيا والحلول العامة الجاهزة مبتعدة عن لغة البرنامج العملي القائمة على البحث العلمي والمعلومات والمعرفة، وهذا النوع من الخطاب قد أصاب الناس بالملل والسأم، لأنه يحلّق بهم في الفضاء والأمنيات دون القدرة على الإجابة على أسئلة الواقع وحاجات الناس اليومية الملحّة، وهنا تكمن الفجوة الخطيرة.
ويضيف القحطاني من ملاحظاته أن الواقعية النضالية التي تنزل بالفكر إلى البناء الاجتماعي وإلى إكراهات الواقع، فتعمل على تحريك الواقع ذاته باتجاه النهضة، وتدفعه إلى تغيير الشروط الموضوعية التي تكبله بالقيود وتحول بينه وبين النهضة هي المفهوم القادر على الإجابة على سؤال النهضة، وهذا يقود إلى المهمات الكبيرة التي تنتظر الحركات الإسلامية اليوم.
أما الملاحظة الثالثة التي ذكرها القحطاني فتتمثل في أن انتهاج طريق التكوين التربوي في الإصلاح مهم على مستوى الصلاح الفردي دون التغيير المجتمعي الذي يتطلب كل القوى والفئات بقدر مشترك من التوافق العام على الأهداف وليس على معايير مثالية من الاصطفاء، بالإضافة إلى ملاحظة أن الخطاب الإسلامي ركز على الوعظ والتذكير التهذيبي لجماهيره، وكانت نتائجه مذهلة في الجمع العددي للمقبلين عليه والمنتمين له، ولكن عند حصول أي مواجهة فكرية مع عقله أو تحدٍ واقعي لمثالياته بسبب انفتاح أو تعدد للثقافات والهويات، فإن قلقاً وتخبطاً يحصل للفرد يلجئه للانكفاء والانعزال أو الذوبان والتلاشي في الغير دون مقاومة، مشيراً إلى تعمد بعض التيارات الإسلامية التخويف والتحذير من الطرح الفكري والنقد الذاتي وأطروحات الوعي الحضاري والنهضوي، تحسبا منها أن هذا الصنيع من أجل التماسك والبقاء، بينما هو نخر داخلي قد يؤدي للفناء.
وينهي القحطاني ملاحظاته بأن الخطاب الإسلامي عاطفي في التأثير وسطحي في التحليل، ولذلك أدواته في التغيير عادة ما تكون بسيطة وهشة، لذا يتعامل مع المواقف والأحداث من خلال فهمه لماضيها التاريخي، أو من وجهها المقابل أو موجتها الأولى، مع افتقار شديد للمراكز البحثية والدراسات العلمية والاحتكام لمناهج التوثيق والتحليل، مؤكداً أنه يمكن الخروج من مأزق التخلف في إصلاح التفكير ببناء الوعي، وإصلاح التعبير بفقه المقاصد والسنن، وإصلاح التدبير بفقه العمران.
وطرح القحطاني في إحدى القضايا التي ناقشها "ما بعد السؤال النهضوي، ونقد التخلف وبعث الوعي الحضاري" مشيراً إلى أنها أول خطوة نحو الإجابة الرشيدة عن سؤال النهضة، لأن الإجابة تعني معرفة جوانب القصور ومكامن الخلل، ولا يكون ذلك إلاً من خلال المراجعة والنقد خصوصاً في مجال الأفكار التي لا تبنى الحضارات ولا تقوم النهضات إلاّ عليها، مؤكداً أن هذا النقد يأتي في مقام الكشف والتقويم لمجتمع كان ناهضاً ثم أفل، وليس في مجتمع نابت حديثاً لا يملك أي إرث حضاري وفكري، وهذا الدور قدمه عدد من المعاصرين على اختلاف توجهاتهم الفكرية إلاّ أنهم أكدوا أن البدء لا يكون إلاّ من خلال النقد الفاحص والمراجعة الصادقة لأزمة التخلف النهضوي لدينا ومن هؤلاء الدكتور السيد يس، والدكتور زهير توفيق، وشاكر فريد حسن، وحسن حنفي، ومحمد عبده، ومالك بن نبي، والدكتور جاسم سلطان، وتكمن المشكلة الأساس في تصور المخرج من مأزق التخلف نحو النهوض، من خلال السؤال الصحيح الباحث عن إجابة تغييرية، تؤسس النقد الذاتي ومكامن الخلل التي أصابت المجتمع بالخمول والذبول، ومهما تعددت التصورات والآراء في نقد الواقع والبحث عن الحلول، إلاّ أن اتفاقها على أهمية النقد وإصلاح الفكر يعطي دافعية نحو المخرج ولو كان من أبواب شتى.