حذر باحث شرعي من الأطروحات الفكرية التي يقدمها دعاة التطرف والغلو بهدف استغلال عاطفة الشباب وحماسهم الديني وإيجاد شرخ بين أبناء المجتمع، مشيرا إلى أن كتاب "ملة إبراهيم" لأبي محمد المقدسي هو نموذج لعمل يمثل تيارا فكريا متطرفا وليس عملا فرديا.
وأوضح الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز الحميدي في حلقة جديدة من حلقات برنامج همومنا بثها التلفزيون السعودي أمس عبر قناته الأولى أن أدبيات الفكر المتطرف كتبها قليلو علم متبصر،منبها إلى خطورة الأساليب التي يتبعها دعاة هذا الفكر لتحقيق غاياتهم ومنها إعداد تنظيمات سرية داخل المجتمعات المسلمة لإثارة الفتنة فيها.
بث التلفزيون السعودي أمس عبر قناته الأولى حلقة جديدة مثيرة من حلقات برنامج همومنا استعرض فيها ضيف البرنامج الأستاذ المساعد بقسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى الدكتور عبدالعزيز أحمد الحميدي المفاهيم التي بنيت عليها بعض أفكار التطرف التي أصل وقعد لها بعض الشبان المسلمين بحماس وعاطفة دون تبصر وروية وحساب لعواقب الأمور.
وواصل الحميدي مكاشفاته وفق رؤية شرعية أصيلة مفندا الأسس الفكرية التي قامت عليها بعض أدبيات التطرف مثل كتاب ملة إبراهيم لأحد رموز التنظير المتطرف وهو أبو محمد المقدسي.
وأوضح الحميدي أن أدبيات الفكر المتطرف كتبها قليلو علم متبصر، وهذا كتاب "ملة إبراهيم" نموذج للعمل الذي يمثل تيارا فكريا، ويتضح أنه عمل جماعة وليس عمل فرد، حيث توصل الحميدي بعد قراءة تحليلية للكتاب إلى أن غرضه هو التهييج وإثارة عاطفة وحماس الشباب السعودي على وجه الخصوص.
وتطرق الحميدي في بداية الحلقة إلى خطورة الأطروحات الفكرية التي تقف خلفها تيارات معينة وتتخذ من الدين لبوسا، بينما هي في حقيقتها ضالة مضلة، ولأن المجتمع السعودي متدين بطبعه – يقول الحميدي – محب للإسلام ومعظم للدليل الشرعي، يتأثر إذا قيل "قال الله تعالى"، و"قال الرسول صلى الله عليه وسلم"، وإذا قيل "قال الصحابي"، "قال العالم فلان"، "قال الكتاب الفلاني من الكتب المعلومة المعروفة" فإنه يتأثر، فيدخل عليه دائماً من هذه المداخل ويدس في طياتها الأهداف الحقيقية لأصحاب ذلك التيار أو ذلك الفكر الذين يريدون إحداث فتنة ما في هذا المجتمع، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حذر قديما ونبه وخاف علينا مثل هذه المداخل فقال - صلى الله عليه وسلم – "أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن"، فجعل من أخوف ما يخاف على الأمة المنافق الذي له أهداف باطنية خبيثة في إحداث الشرخ وزعزعة فكر ودين واعتقاد المجتمع، ويظهر أهدافا أخرى ويستخدم مسمى الدين ومسمى الدليل ومسمى النصر ومسمى الكتاب وأقوال بعض العلماء وأقوال بعض الصحابة، يجيد اختيارها وانتقاءها ليوظفها للهدف الذي يريد أن يصل إليه بعد ذلك. فلا مانع عنده أن يستخدم آيات القرآن الكريم في غير ما أنزلت إليه، ولو كان في ذلك مضادة لله ونفاق مع الله سبحانه وتعالى قبل أن يكون فيه مرآة للخلق، وهو عليم اللسان يحسن الكلام ويحسن الكتابة ويحسن التأليف ويجادل بالقرآن، وقد قال ابن القيم في هذا الحديث: قال - عليه الصلاة والسلام - يجادل بالقرآن ولم يذكر أنه يجادل بالسنن ولذلك غرض، لأن السنن وظيفتها سنة النبي - عليه الصلاة والسلام - توضح القرآن، توضح عام القرآن وتخصصه وتبين مجمله وتقيد مطلقه وتبين بعض الأحيان ناسخه، فيحتاج إليها ليستعان بها على فهم مراد القرآن، وقد قال الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إذا جادلكم أهل البدع بالقرآن فجادلوهم بالسنن، فإن القرآن حمال وجوه باعتباره عمومات وكليات يحتاج فيه إلى أمرين إلى السنة النبوية لتفسره وقد قال الإمام أحمد - رحمه الله - في أول كتاب أو رسالة السنة له والسنة توضح القرآن وتفسره وتبينه، ونحتاج أيضا إلى فهم الصحابة وتفسيرهم، فلغة القرآن لغتهم وهم أهل اللغة وأهل التنزيل وعليهم نزل وهم أعرف بمواقعه ومراداته وناسخه ومنسوخه ممن جاء بعدهم ولو كان من التابعين من بعدهم، فضلا عمن يأتي اليوم ليوظف نصوص الشرع خصوصا القرآن الكريم في غير مرادها.
استهداف الشباب
وضرب الحميدي مثلا على ما ذكره بكتاب "ملة إبراهيم" لـ"أبو محمد المقدسي"، الذي رأى أنه لا يقف خلفه شخص واحد بقدر ما هو تيار معين أو أشد من ذلك لإحداث نوع من الغرضية المقصود بها بالذات المجتمع السعودي، وشريحة الشباب على وجه الخصوص، نظرا لما طبع عليه الشباب من سرعة التأثر وكثرة الحماس، ولذلك سلك الكتاب مسلكا معروفا عند رواد الفكر ومتتبعي أنواع الفلسفات التي يقصد منها التأثير وهو ما يسمى بالتلقين في اللاشعور، وهذا يسلكه الكثير من الأذكياء خاصة الفلاسفة وهو أن يهيجك في البداية بما تحب أنت، أنت تحب نبي الله إبراهيم - عليه السلام - ولا يوجد مسلم ولو كان يعني ضعيف الإسلام إلا إذا ذكر له الخليل إبراهيم - عليه السلام - أشرق وأشرقت نفسه وسر خاطره، فإذا ذكر إبراهيم ذكر التوحيد وذكر صفاء الإسلام، وذكرت مكة والكعبة والمناسك، فعندما يقال ملة إبراهيم، ثم يوظف هذا الاسم وما جاء في القرآن من مدحه والثناء عليه وكلنا نؤمن بذلك ونصدقه في أبينا إبراهيم - عليه السلام - أبي الأنبياء وإمام الحنفاء، ونبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - من ذريته وبُعث على ملته ولدعوته، ثم يصاغ لهذا المسلم أن ملة إبراهيم ضاعت وميراث الأنبياء بدد وتسلط عليه الكبراء وتسلط عليه الظالمون وميعوه، وأن هذا الكتاب وصاحبه أو من يقف وراءه جاؤوا لإعادة الحق إلى نصابه، ثم توظف كل النصوص في هذا الاتجاه، فيهيج القارئ والسامع له حتى ينفتح اللاشعور عنده فيلقن الأهداف الحقيقية.
أهداف مبطنة
وتابع الحميدي: من وجهة نظري من خلال قراءة هذا الكتاب أن له هدفين، لكن لم يدخلهما في أول الكتاب إنما أدخلهما في أواخره، الأول: الدعوة إلى ما سماه السرية، وإعداد تنظيمات سرية، والتخطيط والإعداد داخل المجتمعات المسلمة لإحداث الشرخ فيها، مبينا أن دين الله ليس فيه سرية، ولذلك أورد الإمام البخاري أثرا عن عمر بن عبدالعزيز في كتاب العلم وترجم عليه باب كتابة العلم وإظهاره، يقول عمر بن عبدالعزيز لأحد عماله أبو بكر بن حزم: تتبعوا حديث رسول الله واجمعوه واكتبوه، فإني خفت دروس العلم، أي ذهابه، وموت العلماء، وعلق البخاري - رحمه الله - على هذا الأثر تعليقا عظيما، قال: وليفشي العلم العلماء، وليقعدوا أي يقعدوا للناس ليعلموهم، فإن العلم لا يهلك حتى يكون سرا، مشيرا إلى أن الهدف الثاني كما نص عليه في كتاب المقدسي هو الانقضاض على المجتمع بفتنة وبقتل ابتداء من الأب والأم اللذين أهدر الكتاب حقوقهما على الابن بهذا التهييج باسم ملة إبراهيم.
واستطرد الحميدي في حديثه عن بعض الأساليب المضللة التي انتهجها الكتاب، معتبرا أنه لم يراع الأمانة في الاستدلال بالنصوص ولا حتى في الاستدلال بأقوال العلماء، وإنما سلك مسلك الانتقائية والمزاجية، فإذا لم يجد في كلام العلماء ما يريد، تولى هو تفسير الأمور، ولذلك لا تجد في كتابه نقلا لتفاسير الصحابة، لا تجد أي أثر لا لصحابي ولا لتابعي ولا لمترجم الأئمة في كتب العلم القديمة، وإنما يختار من كلام العلماء المكثرين في التأليف كابن القيم وكبعض أئمة الدعوة بعض المقتطفات، ممثلا على ذلك بمقطع نقله المقدسي من كلام الإمام ابن القيم وعزاه هو إلى كتاب بدائع الفوائد جزء (3) صفحة (69) حيث قال صاحب كتاب ملة إبراهيم: قال العلامة ابن القيم لما نهاهم، أي الله - عز وجل -، عن موالاة الكفار، ويريد الآن أن يفسر ما هي الموالاة في ملة إبراهيم وأنها العدائية التامة لكل شيء، وإظهارها بأشد ما يمكن من عبارات ومواقف للكفر وأهله الذي رتب عليه ليس الكفر الأصلي الذي جاء إبراهيم لإبطاله كعبادة غير الله من الأوثان والأصنام وغيرها، ولو اقتصر على ذلك لكان معه نقاش فيه – يقول الحميدي -، وإنما اعتبر الكفر المقصود اليوم هو كفر المجتمعات الإسلامية التي نعيش فيها نحن، من حكومات وولاة أمر إلى الوالدين كما أسلفنا ليجعلها هي بمثابة أصنام قوم إبراهيم التي يجب أن تكسر وتهدم كما يزعم المقدسي. يقول ابن القيم - بحسب نقل المقدسي -: لما نهاهم الله عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراء منهم ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال، انتهى. هكذا يقول صاحب هذا الكتاب أي كلام ابن القيم انتهى، هذا من بدائع الفوائد جزء (3) صفحة (69) ، فقد أراد المؤلف أن يقرر في هذا الجزء أن معنى موالاة الكفار التي نهى الله عنها هي المعاداة الصريحة والبراءة والمجاهرة بالعدوان في كل حالة، وفي أي وقت مع أي كافر، دون مراعاة أقسام الكفار، دون مراعاة معاهدات، دون مراعاة مصالح، دون مراعاة أي شيء، قدرة أو عدم قدرة، ضعف أو عدم ضعف، مخالفا ما ذكره كل علماء الإسلام كما تحدثنا في الحلقات السابقة وما فعله النبي - صلى الله عليه و سلم - مع أصناف الكفار سواء كانوا محاربين أو مستأمنين أو معاهدين أو غير ذلك.
اختزال النصوص
وبين الحميدي أن هناك تتمة في كلام ابن القيم اختزلها المقدسي وتركها لأنها لا تخدمه بل تعود عليه بنقض كلامه، فإذا راجعنا الموضع عند ابن القيم في تفسير قوله تعالى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" من سورة آل عمران لوجدنا قول ابن القيم: ومعلوم أن التقاة التي استثناها الله عز وجل ليست بموالاة، ولكن لما نهاهم عن موالاة الكفار اقتضى ذلك معاداتهم والبراء منهم ومجاهرتهم بالعدوان في كل حال إلا إذا خافوا من شرهم، فأباح لهم التقية وليست التقية بموالاتهم بشيء. فالمقدسي – كما يقول الحميدي - ينقل العبارات التي يراها تخدمه ويحذف ما قبلها وما بعدها مما لا يخدمه، بل ويمارس ذلك حتى مع النص الشرعي فيأتي بآيات من القرآن موضع الاستشهاد عليها ليس صحيحا، فهو يقرر مثلا وجوب مبادأة المشركين والكفار بالعداوة وإظهارها في وجوههم وإعلانها لهم وتحمل ما يحصل من جراء ذلك، ويستشهد بآية شعيب – عليه السلام - الذي بادأه قومه بالعداوة حتى قالوا له "لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا قال أو لو كنا كارهين" أي كارهين أن نعود في ملتكم، "قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم" فهو الآن مهدد ومضغوط عليه من قبل قومه لكي يترك ما يدعو إليه من توحيد الله ويعود إلى أصنامهم وأوثانهم لكنه يدافع عن ذلك ويأباه ويعلن صبره واحتسابه في ذلك، ومثال آخر لاجتهاد المقدسي في تفسير بعض الآيات من عنده قصة إبراهيم - عليه السلام – التي ذكرها الله تعالى في شأنه مع أبيه على وجه الخصوص "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم" يخبر الله تعالى عن الخليل – عليه السلام - أنه لما تبين له أن أباه آزر عدو لله تبرأ منه، متى تبين لإبراهيم أن أباه عدو لله فتبرأ منه؟ هذه تحتاج إلى مراجعة كلام الصحابة وتفاسيرهم، لكن المقدسي ألغى ذلك وقال من عنده: دعا إبراهيم أباه وقومه فلما أصروا على أصنامهم أعلن البراءة منهم وعداوتهم ابتداء من أبيه وقومه، لكننا عندما نراجع تفاسير الصحابة – والكلام هنا للحميدي - نجد أن عبدالله بن العباس إمام التفسير الأول الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم له تفسير رواه الطبري بسندين صحيحين بطريق حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: فلما تبين له استغفر إبراهيم لأبيه، يعني طلب له المغفرة، فلما مات أبوه مشركا تبرأ منه فترك الاستغفار له، ففي كلام ابن عباس قضيتان تنقضان كلام المقدسي، الأولى أن إبراهيم استمر متلطفا مع أبيه داعيا له إلى الإسلام، مستغفرا له وحتى لا يفهم أحد أن استغفار إبراهيم لأبيه أنه يطلب من الله أن يغفر لأبيه وهو مشرك، وقد علم إبراهيم كما علم كل مؤمن أن الله لا يغفر للمشرك، لكن يطلب من الله أن يغفر لأبيه بأن يهديه للإسلام ليتحقق فيه موجب المغفرة فيغفر الله له فاستمر يستغفر له ويدعو له ويدعوه هو ويصبر على مجافاة أبيه ومبادأته له بالعداوة إلى أن مات أبوه، فلما مات أبوه تبين عند ذلك لإبراهيم أنه انتهى أمره ولا رجاء فيه، لأنه مات مشركا مصرا على وثنيته فلا معنى للاستغفار له بعد ذلك.
تدليسات المقدسي
ونبه الحميدي هنا إلى أهمية التنبه لمثل هذه الأساليب الخطرة في توظيف النصوص الشرعية وكلام العلماء الثقات في غير مناسباتها أو اجتزائها بما يناسب هوى المتحدث بها، فالمقدسي أكثر من النقل من كلام الإمام محمد بن عبدالوهاب في الخطر الشركي وضلاله والبراءة من الشرك وأهله، وهو كلام طيب متفق عليه ولا يجادل فيه أحد، لكنه بعد ذلك وظفه لهدفه الخطير، فأنزله على المجتمعات المسلمة حكومات وقضاة وعلماء ومحاكم وأفرادا وشعبا، كل من يعيش في هذه الدولة وهذا البلد أو يتوظف في هذه الوظيفة فهو من هذه الأصنام والطواغيت التي يجب عنده أن تعامل كما عامل إبراهيم أصنام قومه بالتحطيم والتكسير والإبادة والقتل ولو باستخدام السرية والتخطيط إلى آخره، كما تحدثنا عنه، فيقرأ القارئ كلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكلام أئمة الدعوة ثم يقلب هذا على المجتمعات المسلمة فيظن أن هذا يحمل على كلام الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - وكلام الشيخ إسحاق وكلام محمد بن عتيق حتى إنه يحمل ذلك على كلام إبراهيم الخليل - عليه السلام - ويحمل على القرآن نفسه الذي هو كتاب الله المنزل وهذا من أعظم ما يكون خطورة ليس في هدفه، بل في الجناية الكبرى على النص الشرعي والجناية الكبرى على الخليل إبراهيم عليه السلام، والجناية الكبرى على كلام العلماء.
ويضيف الحميدي هنا نموذجا آخر من تدليسات المقدسي حينما نقل عن الإمام سفيان بن سعيد الثوري الذي كانت له مواقف في زمنه من الخليفة أو الدولة وتعرضه لأذى كثير من الخليفة لأنه كان صداعا للحق أماراً بالمعروف، فأوذي وطرد وبقي 11 سنة من حياته مشردا من قرية إلى قرية بفعل ما وقع عليه من ظلم من الخليفة أبي جعفر المنصور، والمقدسي نقل هذه المواقف من حياة سفيان، ثم ترك موقفه الحقيقي لأن سفيان إمام ومهتد بهدي السنة ولا يحمل حتى الأذية التي حصلت لشخصه على المواقف الشرعية بغرض الانتقام مثلا ويلبسها، ليس هذا الموقف بموقف أئمة السنة، وقد حصلت في أيام أبي جعفر المنصور حركة خروج عليه قام بها رجلان من أولاد إبراهيم بن حسن بقصد خلع خلافة أبي جعفر المنصور وإزالتها، فجاءا إلى سفيان وهما يعرفان أن له مواقف من أبي جعفر وتعرض لظلم، ظنا منهما أنه سيفرح ليفرغ انتقامه وما وقع عليه من ظلم في هذه الحركة ضد أبي جعفر المنصور، فأبى أن يخرج معهما بل وعاد محذرا لهما وزاجرا ومنبها، وقال عبارته المشهورة في عنقي بيعة لإمام قائم، قالوا: قد ظلمك، قال: وإن ظلمني.
الولاء والبراء عند المقدسي
وتطرق الحميدي إلى مفاهيم الولاء والبراء عند المقدسي، مشيرا إلى أن المقدسي استخدم قضية الولاء والبراء لأن لها تعلقا شعوريا بالنفس والقلب بحب الإنسان وبغضه، وكما هو معلوم فإن طاقة الحب وطاقة البغض من أعظم الطاقات التي توجه الإنسان ربما حتى للحرب والقتال، مضيفا: لكن القضية هي في حقيقتها أن المقدسي يهدف إلى تجنيد طاقات شبابية كثيرة لإحداث شرخ معين في المجتمع، فيقدم أفكاره باسم الموالاة والبراءة وملة إبراهيم، ويقيم الدنيا عليها ويقعدها ويجعلها إذا لم تكن في عدائية تامة حتى ربما مع أقرب الأقربين إليك وهو ربما عند الله خير منك من علماء وفضلاء وصالحين وما يمكن أن تنفذ إليه، وبالتالي تجنده ليكون حربا على أهله وأقاربه ومجتمعه، هذه المقدمة التي تفرز مثل هذه النتيجة، وهي أحد مداخل الخوارج القدماء، وقد نبه الصحابي الجليل عبدالله بن عمر - رضي الله عنه - إلى هذا الاستخدام في النفسية الخارجية للآيات أعظم ما أنزل الله من آيات في مفاصلة الكفار والمشركين فتوظف لإحداث المقدمة هذه لدى المتلقي والسامع لهذا الكتاب والذي قلنا قبل قليل سيتلقى في اللاشعور ليعود بذلك بهذه الآيات على مجتمعه بل ربما في مراحل خطيرة إلى أبيه وأمه وأقرب الأقربين إليه، حيث يقول ابن عمر عن الخوارج: هم شرار خلق الله، في نفوسهم وفي أهدافهم، ماذا صنعوا ما هي مداخلهم؟ قال: يعمدون أو قال ينطلقون إلى آيات أنزلها الله في الكفار فيجعلونها على المسلمين، هذا ذكره البخاري - رحمه الله - عن ابن عمر في أول باب قتال الخوارج بعد إقامة الحجة عليهم.
وأوضح الحميدي أن مفهوم الولاء والبراء في كتاب المقدسي يخالف مفهومه في الشريعة الإسلامية، فقاعدة الولاء والبراء الشرعية لها جانبان، الجانب الأول أن يظهر المؤمن إسلامه وتوحيده وأنه لا يعبد إلا الله ولو غضب منه الكفار والمشركون، هذه قاعدة أساسية، والأمر الثاني عدم الرضا والكفر بكل معبود سوى الله، ومعنى الكفر باعتقاده أن لا أحد غير الله يستحق أن يعبد تحت أي صورة من الصور وتحت أي مبرر من المبررات، ولو كان المعبود هذا ملكا حتى أو نبيا فضلا عن أن يكون صنما أو وثنا هذه هي القاعدة العظيمة، هذا هو المفهوم الصحيح – كما يقول الحميدي -، أما كتاب المقدسي فعمد إلى آية واحدة في سورة الممتحنة وهي "قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله (أي الأصنام والأوثان) كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير"، وأقام عليها وجوب أن يعلن الكفر في كل حال وكل وقت وبكل طريقة البراءة منهم وما هو هذا الكفر؟ ليس كفر من يعبد الأصنام والأوثان وإنما هذا المجتمع المسلم الذي أنت تعيش فيه هو هذه الأصنام والأوثان. ليس هذا فقط بل إنه في سورة الممتحنة بعد آية إبراهيم هذه جاءت آية أخرى فصلت في أحكام الموالاة وصنفت الكفار إلى أصناف وهي قوله تعالى "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم" قرأت تفسيرها، عسى من الله متحققة ليست بمعنى الرجاء المعلق، هذا نص عليه ابن عباس أي أن الله سيجعل بينكم وبين كثير من هؤلاء الذين حاربوكم اليوم وقاتلوكم وقاتلتموهم مودة غدا أو بعده، فعاد كثير ممن قاتلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة في بدر وأحد فصاروا من أحسن أصحابه ومن أنصاره، "والله قدير": قادر على أن يقلب عدوك هذا إلى مواد لك ومحب لك إذا صبرت عليه، ومارست معه وسائل كثيرة في بيان الحق له ودعوته وكنت وفيا له في تعاملك معه، لكن المقدسي ألغى هذا كله.
يشار إلى أن الدكتور الحميدي صاحب أطروحات فكرية وله العديد من المؤلفات والدروس وقد قدم هذه المراجعات مستنداً إلى تخصصه الشرعي في العقيدة، وقد أثارت هذه الطروحات في الساحة الفكرية الكثير من النقاشات بعد بث الحلقتين الماضيتين، ومن المتوقع أن تحرك أطروحاته في حلقة الأمس السجال الفكري خاصة أنه أول عالم دين سعودي يعلن ما توصل إليه من حقائق بعد تفحصه للأدبيات التي استند إليها رموز الفكر المتطرف وفق منهج شرعي تحليلي سيتضمنه إصدار موسع وعد الحميدي بطرحه قريبا.
يذكر أن برنامج همومنا يواصل بث حلقاته في أيام الجمع عبر القناة الأولى بعد صلاة الجمعة، وفي قناة الإخبارية بعد نشرة أخبار السادسة مساء.