هناك من يسهر على فيلم، وهناك من يسهر على مشروع يخدم مجتمعه وأمته. ياسر العصيفير (26 عاماً) لا ينام إلا لماماً؛ سعياً وراء إنجاز مشروع نظام تشغيل مخصص للأطفال باللغة العربية باسم (فانوس). يهدف هذا النظام إلى مخاطبة الطفل العربي وتوفير التصفح الآمن له عبر حزمة برامج وآليات طورها العصيفير بتأنٍّ طوال دراسته الأكاديمية. ياسر الذي شارف على الحصول على الدكتوراه في أمن الإنترنت من جامعة كاردف في المملكة المتحدة باحث جاد لا يهدأ ولا يستكين. فقد نظم خلال السنوات القليلة الماضية ثلاث مؤتمرات في مدينته للتوعية بتقنية الويب دعا إليها الطلاب المبتعثين والمهتمين من أنحاء بريطانيا. فمن أبرز مميزات ياسر - وما أكثرها - أنه لا يدخر علمه، بل يحاول أن يتقاسمه مع من حوله بسخاء لا حدود له. وصفه مشرفه البروفيسور عمر رانا، أحد أهم المتخصصين في الحوسبة الشبكية وأمن المعلومات، خلال مؤتمر ويبي الأخير الذي نظمه العصيفير قائلاً: "ياسر باحث موهوب ويقظ. فخور جداً به".

القليل من الباحثين الذين يجمعون الحسنيين. التفوق في ميدان النشر، والميدان العملي. ياسر أحد هؤلاء القلائل. فقد استطاع باحثاً أن ينشر في أهم الدوريات في أمن المعلومات والإنترنت، وقدم أوراقاً علمية في مؤتمرات بلندن وباريس وبكين. كما قام مبرمجاً ومصمماً بإنشاء الكثير من المواقع الإلكترونية الهادفة والجادة.

عندما التقيت ياسر لأول مرة على هامش مؤتمر ويبي بكاردف في ويلز، قبل أسابيع قليلة اعتقدت أنه سيأخذني في جولة شفهية على إنجازاته ومشاريعه. لكن استقبلني بابتسامة وصمت مطبق. هذا الصمت الذي يجيده الباحثون. وهذا التواضع الذي يتحلى به العلماء والخيرون زاد من إصراري وتعلقي بهذا الشاب. زاد من حماسي للتعرف أكثر عليه وعلى الثروة التي يدفنها في أنحاء أصابعه ورأسه. إن العصافير لا تجيد الحديث مع البشر. لكن تجيد الغناء على الشجر. والكيبورد هو مسرح العصيفير وشجرته، التي لا يغرد سوى على أغصانها.

يشير جيري يانق المؤسس المشارك لموقع (ياهو) الشهير، إلى أن أكثر المبرمجين الذين يسحرونه "هم الذين يتكلمون عبر برامجهم. وليس ألسنتهم". وياسر أحد هؤلاء المبرمجين الذين لا يجدون متعة في الكلام بل في التمام.

هذا الزهد في الكلام حرم ياسر من تنفيذ الكثير من المشاريع البرمجية التي تحتاج إلى تمويل ورعاية. هذا ليس سلوك العصيفير وحده بل كل من يملك كرامة وذرة إبداع. فلا يمكن أن يتسول المبدع الحقيقي الدعم والاهتمام. فياسر حسب ما عرفت أنه خاطب إلكترونياً أكثر من جهة لرعاية (الفانوس) وغيره من المشاريع. لكن لا حياة لمن تنادي. للأسف شركاتنا وجامعاتنا التي تتشدق برعايتها للبحث العلمي وإنشائها لأودية وشعاب السيليكون في أرجائها تغيب حينما ننشدها أو نبحث عنها.

العصيفير، الذي تخرج من كلية المعلمين في حائل، ولد من جديد عندما أتيحت له فرصة الدراسة خارجياً عبر برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. فتواصل عبر جامعته الويلزية مع مؤسسات ومنظمات ومعاهد تخاطبه بفضل إنجازه وعلمه، لا بفضل لسانه واسمه.

لكن للأسف سيرتطم ياسر وغيره من خريجي هذا البرنامج بصدمة حقيقية عندما يعودون للوطن. سيكتشفون أن الكثير من الإجراءات اليسيرة القصيرة التي كانوا يحصلون عليها بتلقائية في غربتهم تتطلب إجراءات معقدة وماراثونية في وطنهم. والأسوء من ذلك أنها تتطلب لساناً طويلاً وربما قصائد مديح تتلى في صدور المجالس أو بطون المكاتب.

كم أتمنى أن يأتي اليوم الذي أجد فيه ملحقياتنا الثقافية تهتم بالتسويق لأبحاث ومشاريع طلابها النجباء عبرالتواصل مع جهات راعية في الداخل. لكن المحزن أن الملحقية ومؤسساتنا التعليمية والبحثية في المجمل تفتقر للمبادرات الإستراتيجية.

إن المبدع كالطائر، لا يجيد مهنة التسويق. لكنه قطعاً يجيد التحليق. فلنكفه شر السؤال، ونبحث عنه. من المؤلم أن ياسر الذي سينال أعلى درجة علمية قريبا- الدكتوراه - لم يتلق أي عرض للعمل في المملكة، في حين تهافتت عليه العروض من شركات إنجليزية وأجنبية. أليس ما يحدث لياسر وزملائه مدعاة للقلق، ودعوة لمراجعة آليات التوظيف في جامعاتنا التي تستقطب أعضاء هيئة التدريس من شتى أنحاء العالم وتنسى أبناء الوطن؟ تسقي البعيد وتنسى القريب.

إن المجتمعات الناهضة هي التي تمد يدها للمبدع وليس لسانها له. فلنفتش أفراداً ومؤسسات عن هؤلاء المبدعين الذين يتوارون خلف جدار الصمت. ونغدق عليهم ونمطرهم بالدعم الذي يدفعهم للمزيد من الارتفاع والغناء.