(أخي العزيز يحيى, السلام عليكم وبعد، حاولت تسجيل ابني فيصل في مدرسة ابتدائية أهلية تدرس فيها معلمات طلاب الصف الأول ولكنهم أخبروني بأنه لم تعد هناك مقاعد وحاولت مع غيرهم ويأتيني نفس الرد، هل تستطيع خدمة أخيك في ذلك، أرجو مساعدتكم وعذرا لإزعاجكم)..
لا أزال أحتفظ بهذه الرسالة في هاتفي المحمول، والتي وصلتني من رجل عادي، بمعنى أنه لو استمات كل كتاب الإنترنت في تصنيفه بأنه ليبرالي أوعلماني أو تغريبي، فلن يجدوا إلى ذلك سبيلا، إنه مجرد موظف عادي ورجل يكاد يكون ملتزما للغاية، لكنه بفطرته يدرك أن ابنه ذا الخمس سنوات سوف تكون بدايته مع المدرسة أفضل إذا ما التحق بالمدارس التي تطبق نظام المعلمات لطلاب الصفوف الدنيا، وأن طفلا في مثل هذه السن بحاجة إلى رعاية أقرب إلى الأمومة.
منذ سنوات مضت والعديد من المدارس الأهلية تطبق هذا النظام، والمفارقة أنها تشهد إقبالا منقطع النظير إلى الدرجة التي باتت تكتفي معها تلك المدارس مبكرا وتغلق باب التسجيل، وبات كثيرون من أولياء الأمور يحرصون على تسجيل أبنائهم مبكرا.
هذه القضية ورغم ما تحظى به من قبول اجتماعي باتت الآن تمثل معركة من معارك التربية والتعليم، لتنضم إلى معارك المناهج والدمج والتطوير وتعليم اللغة الإنجليزية، وكلها ضمن محاور إصلاح وتطوير التعليم الذي سيظل يجد ممانعة يبدو أنها لن تنتهي قريبا، مما يعني أن المواجهة تنطلق من فهم ماهية التطوير الذي يحتاجه التعليم.
ربما لا يوجد في تاريخنا السعودي قضية شهدت ممانعة مستمرة كما هو الحال في التعليم، بدءا من انطلاقه وصولا إلى تطويره. تنطلق الممانعة من خوف على التعليم أن يخرج عما بدأ به من كونه تعليما تديره كوادر فقهية، بقليل من الكوادر التربوية، وتستطيع توجيهه بما يعكس سيطرة تيار على غيره من التيارات، لكن التعليم لا خيار أمامه من أن يكون متطورا ومتنوعا ولا خيار للمستقبل سوى تعليم حديث وقادر على التطور والتحول حسب المراحل. وكلنا يدرك أن أبرز إشكالاتنا التنموية تعود إلى التدني الواسع في مستوى التعليم وأدواته ومخرجاته.
يغيب عن كل ذلك أن المواجهة ليست بين الممانعين وبين وزارة التربية والتعليم، بل هي في الواقع مواجهة بين الناس وبين الممانعة، إذ يمكن القول إنه لا يوجد قرار من قرارات تطوير التعليم التي اتخذتها الوزارة قد حظي برفض اجتماعي، بل على العكس من ذلك، يحظى بقبول واسع ومستمر، وهو مما يجب على الوزارة أن تستوعبه وأن تستجيب له، لأن الوزارة تقوم بكل ما تقوم به من أجل الناس والمستقبل.
آخر وأحدث هذه القضايا تلك التي تدور حول سماح الوزارة للمدارس الأهلية بتولي المعلمات تدريس طلاب الصفوف الدنيا، والتي تحولت إلى معركة بذات الأدوات القديمة التي انطلقت منذ بداية التعليم، فهل يصر الممانعون على أن ما يجب الاستجابة له هو رغبتهم هم فقط، أم رغبة الناس وتطلعاتهم؟
في الدولة الحديثة، وتحديدا في محاور التنمية من تعليم وصحة وتعليم عال وغيرها، يتمثل دور الدولة في الاستجابة لمختلف الخيارات، لا في اتباع خيار واحد وإلزام الناس به، لأن الناس مخولون بالاختيار وتحديد مسارات حياتهم، وهو ما يجعل من تنويع التعليم أبرز وأهم الحلول التي يمكن بها إخراج التعليم من كونه مادة لصراع التيارات الفكرية.
إن تجربة مدارس تحفيظ القرآن الكريم إيجابية من حيث النظر إليها على أنها خيار متاح للجميع، لمن يريد ذلك، ولمن لا يريده سيجد متسعا في مدارس التعليم العام، أو في المدارس الأهلية، وهذا التنوع من شأنه أن يجعل اختيار نوع التعليم قرارا شخصيا وعائليا لكل أسرة. يتمثل دور الدولة هنا في أن يجد أناس ما يختارونه، لكن هل يرضى الجميع بهذه المعادلة ؟
هنا تنكشف الممانعة وتظهر بمظهر من يسعى للسيطرة على خيارات المجتمع، وهو أمر غير ممكن، خاصة أن المجتمع يثبت باستمرار نجاح مختلف الخطوات التي تتخذها وزارة التربية والتعليم، وأكبر دليل على ذلك هو الإقبال الواسع الذي حظيت به المدارس الأهلية التي توكل تدريس طلاب الصفوف الدنيا لمعلمات.
هكذا إذن، تنجح الوزارة اجتماعيا ولو بخطى يسيرة، مما يعني أن التفكير في وجود أكثر من نوع من التعليم سوف يمثل حلا فعليا لكل تلك الخلافات، فمن أراد تعليم أبنائه في مدارس تحفيظ القرآن فسيجد أمامه كل الخيارات في ذلك، وبالمقابل فمن حق من يريد تعليم أبنائه في مدارس تركز على العلوم والحاسب والرياضيات واللغة الإنجليزية أن يجد ما يريده حتى في مدارس التعليم العام.
في كل دول العالم لا يوجد تعليم من نوع واحد، بل توجد عدة أنواع من التعليم تسمح للأفراد باختيار ما يرونه ويرغبون به، وهنا يكون النجاح الفعلي للدولة في معادلة التعليم، وهو ما شاهدناه في إقبال الناس على المدارس الأهلية الأجنبية، وعلى المدارس الأهلية الابتدائية التي تدرس بها معلمات، وهو ما نشهده كذلك في مدارس تحفيظ القرآن، وأمام كل ذلك يجب أن يدرك الممانعون أن قضيتهم الحقيقية هي مع المجتمع وليست مع وزير التربية والتعليم.