تتواصل في سورية منذ أسابيع عديدة مظاهرات شعبية بدأت في درعا بالمطالبة بالحريّة والإصلاح ثمّ شملت عددا كبيرا من مختلف مناطق البلاد وتطوّرت إلى رفع شعار إسقاط النظام. ومنذ اللحظات الأولى قابلت السلطات تلك المظاهرات الاحتجاجية بالعنف والقمع والقتل وسقط الضحايا بالعشرات ثم بالمئات، أمّا المعتقلون فأصبحوا بالآلاف. كان الخيار إذن أمنيا بوضوح. وكان خاطئا بوضوح.
هذا الخيار لم يخمد، ولن يخمد، النار، بل أججها، وقد يدفع البلاد إلى منزلقات خطيرة تهدد السلام الأهلي والوحدة الوطنية اللذين يشكلان التحدي الحقيقي في نهاية المطاف. السوريون يدركون ذلك جيّدا على عكس ما كان يعتقد الذين اختاروه كحلّ. ومن هنا كانت الدعوات والنداءات من المعارضين للنظام ومن أصدقائه أيضا التي تطالب بوقف النزيف واللجوء إلى خيار الحل السياسي.
لكن لا يبدو أن طبيعة ممارسة الحكم لعقود عديدة وإحكام القبضة على الدولة والمجتمع أدّت إلى تغييب السلطة للدولة ومعها أي انفتاح سياسي حقيقي؛ هذا غير ما يُعرف بـ "الجبهة الوطنية التقدمية" الكسيحة. بالتالي تعطّلت كل آلية للتفكير بنمط آخر غير اللجوء إلى قمع كل صوت يرتفع، أو يهمس، احتجاجا. باختصار أصبح لسان حال السلطة وخطابها كلّه يتلخّص في القول: أنا أو الفوضى..
جرى تبرير اللجوء إلى الحل الأمني بوجود مؤامرة خارجية تستهدف أمن سورية واستقلالية نهجها السياسي، وإذا لم يكن يغيب عن ذهن أي عارف لواقع المنطقة ولخارطة القوى السياسية فيها أنّ الحسابات الإقليمية والدولية ليست بعيدة عمّا يجري في سورية التي جسّدت لدى شريحة واسعة من الرأي العام العربي أحد رموز مقاومة المشروع الصهيوني، لكن جوهر حركة الاحتجاج الشعبي المستمر منذ أسابيع يعود لنفس الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية لما كان في تونس أو مصر أو اليمن. نعم هناك متزمتون ومتطرّفون، كما في جميع البلدان، ومن واجب الدولة حماية الوطن والمواطن منهم، لكن المطالب الشعبية في الحريّة والعدالة الاجتماعية هي التي تدفع الآلاف للتظاهر السلمي في الشارع ولو كانت حياتهم هي الثمن.
ولا شكّ أن سورية تستفيد كثيرا من "رقمها الصعب" في الحسابات الدولية. لقد كانت، ولا تزال، قطبا استراتيجيا أساسيا في المنطقة. هذا ما تدركه المجموعة الدولية جيّدا، كما يبدو بوضوح في مواقفها "الخجولة" مما يجري في سورية. ولا شكّ أنّه ليس بعيدا عن هذه المواقف الخوف من نتائج الفوضى في سورية على مجمل منطقة الشرق الأوسط. والكل يعرفون أن للنظام السوري تحالفاته الإقليمية والدولية. وإذا كانت جميع محاولات فك تحالفاتها الإقليمية قد فشلت حتى الآن فإن روسيا، التي كانت قد امتنعت عن التصويت لصالح القرار 1973 الصادر عن مجلس الأمن الدولي بخصوص "حماية المدنيين" في ليبيا ثمّ اعترضت على آليات تطبيقه، تبدي اليوم موقفها الحازم ضد أيّة مـحاولة لاستصدار إدانة صريحة لسورية أو فرض عقوبات دولية عليها. هكذا أفشلت، مع الصين، بتاريخ 27 أبريل الماضي صدور مجرّد بيان عن مجلس الأمن يدين قمع النظام السوري للمظاهرات الشعبية.
على خلفية مثل هذا المنطق جرى تفويت الفرص التي كان منها أن تأتي بالإصلاح المطلوب. وخاصّة فرصة الخطاب الذي ألقاه الرئيس السوري فيما يُسمّى بـ "مجلس الشعب" يوم 30 مارس الماضي. لم يستجب في ذلك اليوم لما كان ينتظره منه السواد الأعظم من مواطنيه السوريين ـ وأنا منهم ـ وانتهاز الفرصة التاريخية التي كانت متاحة أمامه لوضع قطار الإصلاحات على السكّة الصحيحة.
وهكذا ابتعد بالتالي عن صورة من قد يكون جزءا من الحل، بل ومفتاحا لهذا الحل، وأصبح أكثر فأكثر جزءا من المشكلة التي تكبر، وتكبر تهديداتها، كلما جرى الإيغال أكثر في العنف والاعتقال والقتل.
وأين الإصلاح؟ ومن، وما، يعيقه؟
إنه غير موجود حتى الآن سوى ببعض الجمل والوعود بـ"صيغة المستقبل"، ودون القيام بأية خطوة حاسمة على أرض الواقع. كلّنا نحب بلادنا، ولكننا لا نفكّر بنفس الطريقة . فـ"أوقفوا القتل واستخدموا العقل"، هكذا تقول لافتة حملها أبناء من الشعب.