لا يختلف اثنان على أن بعض الإعلاميين يكذبون، فمن غير المعقول ألاّ يوجد ولا إعلامي واحد على وجه الأرض يقترف الكذب. وهذا الحكم السليم لا يقتصر بالطبع على الإعلاميين، بل يمكن إطلاقه على مختلف الفئات، فبعض التجار يكذبون، وبعض الصناعيين يكذبون، بل ويسري هذا على الدعاة وغيرهم، فلا يمكن أن يدعي أحد أنه لا يوجد ولا داعية واحد على وجه الأرض يقترف الكذب، وعلى هذا فحصول الكذب من جميع فئات المجتمع أمر لا يستطيع أحد إنكاره، لكن الأمر الذي يمكن أن يحصل عليه الخلاف هو حجم من يكذب من الفئة وليس حصول الكذب من حيث المبدأ، فقد يحصل الخلاف مثلاً على النسبة التقريبية ممن يكذبون من فئة التجار أو الصناعيين أو الصحفيين أو غيرهم، فيقول قائل مثلاً إنه يعتقد أن 10% أو 20% من الكتاب يكذبون وقد يعتقد آخر أن النسبة ترتفع إلى 30% وقد يحصل الخلاف على حجم النسبة بين فئة وأخرى فيقول قائل إن نسبة من يكذبون من الإعلاميين أكثر من نسبة الكاذبين من التجار، أو العكس، ومما يمكن أن يحصل عليه الخلاف أيضاً زيادة عدد الكاذبين من أي فئة من عصر إلى آخر لعوامل مختلفة، فقد يقول قائل وهو يتحدث عن عصره وبلده إنه نظراً لكذا وكذا فقد زادت نسبة الكاذبين من الصحفيين.. ولاحظوا أني حتى الآن أتحدث عن نسبة الكاذبين من أي فئة ولا أتحدث عن حجم الكذب من الشخص الواحد، أي لست أتحدث عن زيادة الكذب (هكذا) في المجتمع أو زيادة الكذب (هكذا) بين التجار أو الإعلاميين، فهذا ليس مجال بحثي الآن.
وأنتقل الآن إلى النقطة المهمة فأقول كما أنه لا يختلف اثنان على حصول الكذب من بعض الإعلاميين وبعض التجار وبعض الصناعيين وبعض الدعاة وغيرهم من الفئات الأخرى، فإنه لا يمكن أن يحصل الخلاف أيضاً على أنه لا يمكن الحكم بأن جميع الإعلاميين يكذبون وجميع التجار يكذبون، وجميع الصناعيين يكذبون، فالحكم بأنه لا يوجد ولا إعلامي واحد على وجه الأرض لا يكذب لا يمكن أن يقول به عاقل.
وطالما أن الأمر كذلك فلماذا يا ترى قال سماحة المفتي في خطبة الجمعة الماضية كما نقلت "الوطن" وهو أعقل العاقلين ((إن من صور الكذب كذب الإعلاميين عموماً (لاحظوا عموماً) في بعض ما ينشرونه ويذيعونه دون تحري الصدق أو الأمانة وهو أمر يسلكه الإعلاميون على مختلف درجاتهم (ولاحظوا مختلف درجاتهم فهي تشمل رئيس التحرير والوزير والغفير) وهو من الكذب المحرم من نشر أخبار سيئة وغير صادقة ومقالات غير واقعية وهو مخالف لشرع الله)).
هذا النص لسماحة المفتي نقلته "الوطن" في عددها يوم السبت 11/6/1432 على أنه من خطبة يوم الجمعة 10/6/1432 وقد قَوّسته لتؤكد أنها نقلته حرفياً من خطبته، وهو حسب فهمي يعني حسبما يفهم من كلمة ((عموماً)) وعبارة ((على مختلف درجاتهم)) أن جميع الإعلاميين في مختلف أنحاء الأرض وبمختلف مناصبهم ومواقعهم يكذبون، ولا يستثنى من ذلك حتى رؤساء تحرير الصحف الدينية والمسؤولون عن القنوات الدينية أيضاً.
هذا ما فهمته من النص وقد يكون فهمي صحيحاً وقد لا يكون كذلك وقد يشاركني في هذا الفهم كثيرون أو قلة وقد لا يشاركني فيه أحد، والمهم الآن هو فهم محكمة الإعلاميين في وزارة الإعلام، فماذا سيكون موقفها يا ترى من إعلامي كتب العبارة نفسها أو ما يماثلها في مقال ونشر ذلك في صحيفته، ووردت في المقال كلمة التجار أو الدعاة أو الصناعيين بدلاً من الإعلاميين ثم تقدم بعض المتضررين الذين فهموا مثل فهمي بشكوى للوزارة مطالبين بتطبيق عقوبات النظام الجديد على الكاتب التي تقضي بغرامة تصل لخمسمئة ألف ريال والإيقاف عن العمل الإعلامي ربما مدى الحياة والإحالة للمحاكم لتحكم عليه ربما بالسجن أو الجلد، على اعتبار أن مسّ الدعاة على هذا النحو هو إساءة للدين، والمسيء للدين الإسلامي قد يحال للمحاكم كما قضت بذلك العقوبات الجديدة..؟
لماذا أقول كل هذا..؟؟
أقوله لأوضح أنه على افتراض صحة تفسيري فإنه لا يمكن على الإطلاق أن يكون هذا قصد سماحة المفتي، فهو بما عرف عنه من سماحة وتثبت وعدم إطلاق الأحكام الظالمة لا يمكن أن يقصد أن جميع الإعلاميين يكذبون، وأنه لهذا فلابد أنه يقصد بعض الإعلاميين ولا يمكن أن يقصد حتى إن بعض الإعلاميين يكذبون في كل ما يقولونه، بل يقصد أن بعض الإعلاميين يكذبون في بعض ما يقولونه، وقد يكون يقصد أن كذب بعض الإعلاميين أكثر من كذب بعض الفئات الأخرى.
إني أقصد أن أي خطيب أو أي إعلامي وأي متحدث أو كاتب قد يستخدم عبارات توحي له بمعنى مختلف عن إيحاءاتها لغيره وعندما يتضح له أن عبارته قد فهمت على نحو لا يقصده فإنه يصحح المفاهيم الخاطئة التي أوحت بها عباراته، وبالتالي فلابد أن يؤخذ هذا في الاعتبار في نظام المطبوعات وينص عليه حتى تكون الأمور واضحة، ولا يكون تفسير تلك العبارات الكثيرة القابلة للاحتمالات العديدة الواردة في النظام عائداً فقط لفهم لجنة العقوبات للنص وحدها بل لابد أن يؤخذ في الاعتبار مقاصد الكاتب تماماً كما هي الحال في عبارات سماحة المفتي، التي قد يكون قصده منها عموم فئات الإعلاميين، وليس عموم الإعلاميين، كما فهمت، والفرق كبير بين الأمرين.