من أقدارنا في هذه الحياة أن نلتقي بأناس رائعين، نتعرف عليهم ونرتبط بصداقات متينة معهم، ويشغلون حيزا كبيرا من ذاكرتنا الخاصة والجمعية، ثم يصدمنا الرحيل، وتبقى أشياء جميلة من عبق الذكرى، تطل بين حين وحين، ليستمر التواصل الإنساني بأشكال أخرى.

في حالات نادرة يرحل الصديق، ويبقى حاضرا بقوة، لا تستطيع الفكاك من حضوره أبدا. خلال عام مضى، فقدنا قامات كبيرة، من الشموع التي أضاءت درب عتمتنا بعطاءات فكرية وإبداعية كثيرة، في مقدمتهم محمد عابد الجابري ومحمد أركون ونصر حامد أبوزيد وشفيق الحوت وعبد الله الحوراني. وقد أضاف كل منهم لبنات قوية إلى صرح نهضتنا العربية المعاصرة.

وفي الأيام الأخيرة، هوى نجم كبير من عليائه، ليعود إلى أم رؤوم. كان قامة كبيرة في إصراره وعناده وتمسكه بثوابته الوطنية والقومية، وتحليه بأنبل الشمائل الخلقية.. قامة من حيث إسهاماته الفكرية، في مجالي العلوم الاجتماعية والسياسية. لقد رحل الصديق الكبير والمفكر والباحث والمثقف والإنسان الدكتور خلدون حسن النقيب، إلى العالم الآخر. حسبنا صبراً وعزاء، التسليم بإرادة الله سبحانه وأن كل نفس ذائقة الموت.

الحديث عن الفقيد، لا يمكن أن يفصل عن حديث الفكر. فقد قضى الدكتور النقيب جل حياته باحثاً ومجدداً، وقدم لنا زاداً استثنائياً، مسهما في تحقيق الربط الجدلي بين الفكر والممارسة.

كانت آخر مشاركات الفقيد الراحل الفكرية في مؤتمر "الثورات والإصلاح بالوطن العربي" الذي انعقد بالدوحة في 18 أبريل من هذا العام، حيث ترأس الدكتور النقيب الجلسة الثانية في المؤتمر، التي تناولت الخلفية التاريخية للثورة التونسية. وكان آخر حديث للراحل الكبير في تجديد الفكر، قد جرى قبل سويعات من رحيله إلى الرفيق الأعلى في "قناة دريم" القاهرية، قدم خلالها قراءة تحليلية معمقة لما يجري الآن في البلدان العربية، وعلاقة ذلك بما نظر له في كتابه ذائع الصيت، "الدولة التسلطية في المشرق العربي"، الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت.

كانت معرفتي بالراحل الكبير، قد بدأت كقارئ عام 1988 أثناء تحضيري للدكتوراه بالولايات المتحدة الأمريكية. وكان الكتاب جزءاً من موسوعة صدرت، في عدة أجزاء، في كتب مستقلة عن مركز دراسات الوحدة العربية، تناولت موضوع المجتمع والدولة بالوطن العربي. وقد أنيط بالدكتور النقيب في المشروع الكتابة عن "المجتمع والدولة في الخليج العربي من منظور مختلف". وقد أثار الكتاب في حينه ضجة وجدلاً كبيراً، وإشكاليات واسعة بين أوساط الفكر والرأي الكويتي والعربي. والكتاب عمل إبداعي مميز، تناول بالتشريح البنية المجتمعية لبلدان الخليج العربي، ولا يزال هذا العمل، رغم مضي ما يقرب من أربعة عقود على صدوره دليلاً مهماً في الكتابة عن المجتمعات الخليجية.

لم أكن حينها أتوقع في ذلك الحين، أن الأقدار سوف تتكفل بجمعي بالراحل، وأن تجمعنا صداقة حميمة متينة ورفقة ودرب. دارت بنا الأيام.. وتحقق أول لقاء مباشر بالراحل على أرض المنامة، بالبحرين بعد إعلان الملك حمد بن عيسى آل خليفة عن الميثاق الوطني عام 2001 الذي بشر بمرحلة جديدة في تاريخ البلاد. لقد عقدت إثر صدور الميثاق، ندوة حول مستقبل وآفاق الديمقراطية في مملكة البحرين، كان لي شرف المشاركة فيها. ودعي الراحل النقيب للمشاركة في تلك الندوة. ووجدت الدكتور النقيب في تلك الندوة محاوراً متميزاً ومفكراً كبيراً، قادراً على التأثير والإقناع.

وكان لنا لقاء آخر، لمناقشة كيف يصنع القرار السياسي في البلدان العربية، في بيروت بمركز دراسات الوحدة العربية. وكانت مهمة النقيب في تلك الندوة هي مناقشة صناعة القرار السياسي في دولة الكويت. وقد صدرت أوراق الكتاب مؤخراً عن المركز تحت عنوان "كيف يصنع القرار في الأنظمة العربية". ولم يكن ضمنها ورقة الدكتور النقيب. منذ ذلك الحين تكررت لقاءاتنا وأصبح مركز دراسات الوحدة خيمتنا التي نجتمع تحت فيئها بين الحين والحين، فرادى وأحياناً بمعية عدد من المفكرين العرب. وكانت لنا فرص أخرى للتسكع في مدينة بيروت الجميلة.

قبيل عدة شهور اتصل بي الراحل العزيز، من الكويت وأبلغني أنه متجه إلى لندن لقضاء بعض الوقت، وتمنى علي أن نلتقي بعد عودته في مكان نتفق عليه لاحقا. ولم أكن أعلم أن تلك المكالمة ستكون آخر حديث بيني وبينه، وأنه قريباً سوف يغمض عينيه.

آمن الدكتور النقيب بحق أمته العربية في الحرية والعدالة، ورأى أن السبيل للنهضة هو الإيمان بالعلم ورفض الخرافة، وأنه لا مناص للعرب، إذا رغبوا في التماهي مع روح هذا العصر، من الولوج في عصر تنوير جديد. كرس جهده في الدفاع عن هذه المبادئ، واستمر مناضلاً صلباً لا تلين له قناة، حتى آخر رمق في حياته.

إلى جانب كونه عالم اجتماع، عمل الراحل أستاذاً بجامعة الكويت. وأسس المجلة العربية للعلوم الإنسانية، والمجلة العربية للعلوم الاجتماعية. وألف مجموعة من الكتب، لعل أهمها "تأملات في فقه التخلف"، الذي عمل فيه على التأصيل لمشروع عربي حداثي، يعيد الاعتبار للعلم والعقلانية، ويتصدى للقوى الظلامية عبر رؤية نقدية للتاريخ العربي في شقيه القديم والحديث.

في كتابه "الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر"، أشار الدكتور النقيب، إلى أن الأصل التاريخي لهذه الدولة هو البيروقراطية الحديثة التي ولدت في خضم الحقبة الرومانسية التي أعقبت عصر التنوير، بفرعه السياسي الفرنسي، والأيديولوجي الألماني. وأنها حطت بشكل متزامن مع تفجر نمط الإنتاج الرأسمالي الذي صاحب الثورة الصناعية الأولى. من هذه المقدمة انطلق الفقيد العزيز ليقدم للمكتبة العربية مصنفاً نظرياً فريداً، سيبقى لحقبة طويلة ملهماً لعدد كبير من المثقفين العرب، الباحثين عن الحرية وصناعة مستقبل يليق بأمة تطمح إلى صناعة فجر جديد.

رحم الله الفقيد الغالي الكبير، وتغمده بواسع رحمته وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، "إنا لله وإنا إليه راجعون".