تفاجأ الحضور في نشاطٍ لاتحاد أدباء العراق في مقره ببغداد الخميس الماضي بما أرى أنه حدث يستحق أن يكون من أهم مشاهد العام الثقافية على المستوى العربي حين دخل الشاعر مظفرالنوّاب إلى القاعة، ليحتضن المكان حالة حميمية فريدة تمثلت بلقاءٍ أول بين مبدعٍ اغترب عن وطنه أربعة عقود مع أصدقائه القدامى ومع الأجيال التي تلتْهم من مبدعي العراق، ذلك البلد الخصب الذي لم يتوقف عن ضخ المبدعين منذ آلاف السنين يوم خطَّ كاتب ملحمة جلجامش ألواحه السومرية بما فيها من إسقاطات ورؤى سبقت زمنها، مرورا بالمتنبي ومن قبله وبعده، وصولا إلى عصر الزهاوي والجواهري والبياتي والسياب ونازك ومظفر النواب وغيرهم ممن تركوا بصمة مميزة في الأدب العربي الحديث.

عاد مظفر النواب إلى العراق على الرغم من ظروف البلد الصعبة، مغادرا ظروفا صعبة أخرى في دمشق حيث كان مستقره في نهاية رحلة اغترابه المرهق التي أمضاها مهجَّرا من بلد إلى آخر، أبدع خلالها عددا كبيرا من القصائد عن الغربة والحنين والحب والأم والوطن والقدس... وانتقد فيها ما انتقد بقسوة من ظروف الأمة. كان مباشرا في كثير من قصائده وكان رمزيا في غيرها. كل ذلك ينسجه بإحساس عال، فهو يدرك متى يجب أن يكون مباشرا، ومتى يلجأ للرمز.

على الرغم من الشهرة العربية للشاعر بقصائد كتبها بالفصحى، إلا أن الباحث العراقي العزيز الدكتور عبدالحسين شعبان يرى أن النواب أول مجدد في الشعر الشعبي العراقي، فهو أخرجه من قوالبه المعروفة إلى الحداثة، غير أن حدائة مظفر مختلفة عن غيرها.. فهي الصورة الخلابة وهي الرمز وهي الخروج عن المألوف بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، ما جعل كبار مطربي العراق يتغنون بكلماته.

لننظر إلى اختزال صفحة من المشاعر في جملة يقولها مظفر في قصيدة "روحي" الشعبية: "تعال بحلم واحسبها إلك جية.. وأقولن جيت".. ولنتأمل جموحه الغاضب في قصيدة "صويحب":

"أحاه. شوسع جرحك ما يسده الثار

يصويحب وحق الدم ودمك حار

من بعدك، مناجل غيظ ايحصدن نار"

أتخيل مظفر اليوم مندهشا من الشعوب العربية التي ثارت ، وهو الذي هاجم تلك الأنظمة القمعية وكتّاب التقارير فيها، وأتخيله يشمّ كل مسامات وطنه برغم أمراضه الكثيرة بما فيها ضعف البصر. أتخيله يرتشف "الشاي البصري الموجع بالنعناع"، وأتمنى معه:

"يا إلهي، إن لي أمنية ثالثة

أن "يرجع اللحن عراقيا، وإن كان حزين".