ليس للصحافة العالمية شاغل هذا الأسبوع، فيما يبدو، سوى متابعة أخبار المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي، "دومينيك ستراوس-كان" الذي أوقفته شرطة نيويورك يوم السبت بتهمة الاعتداء الجنسي ومحاولة الاغتصاب.

وسبب هذه الضجة غير المفتعلة أن "ستراوس-كان" ليس فقط قائد أهم مؤسسة مالية عالمية، حيث يشغل أعلى منصب في الصندوق منذ عام 2007، بل هو أحد أهم السياسيين في فرنسا، إذ كان متوقعاً أن يعلن عزمه على الترشح للرئاسة الفرنسية ممثلاً للحزب الاشتراكي. وإلى أن وقعت هذه الحادثة، كانت استطلاعات الرأي تقول إنه سيفوز بسهولة على الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي، الذي تنتهي ولايته العام القادم (2012)، ولكن ذلك يبدو بعيداً بعد هذه الفضيحة.

ومجمل التفاصيل، حسب بيان الناطق الرسمي لشرطة نيويورك، أن سلطات مطار نيويورك أرغمت "ستراوس كان"، على النزول من طائرة متوجهة إلى باريس، قبل عشر دقائق من موعد إقلاعها. السبب؟ أنه مطلوب للتحقيق من قبل شرطة مدينة نيويورك بتهمة الاعتداء الجنسي على عاملة في الفندق الذي كان يقيم فيه في تايمز سكوير، ومحاولة اغتصابها. وقد حدثت الواقعة ظهر يوم السبت (14 مايو)، وغادر بعدها "ستراوس-كان" إلى المطار على عجل، تاركاً وراءه بعض أغراضه الشخصية، وحاول السفر إلى باريس، وكاد ينجح، لولا يقظة شُعبة التحري في نيويورك، التي تتبعت آثاره وتمكنت من منعه من السفر بعد الحادثة بساعات قليلة.

وقد اكتسب "ستراوس-كان" أهمية خاصة في ظل الأزمة المالية العالمية، التي أعطت صندوق النقد الدولي دوراً كبيراً في إدارة الاقتصاد العالمي لم يعرفه منذ عقود، ولهذا فقد اقترن عهده بإعادة الهيبة والاحترام للصندوق وللمؤسسات المالية والدولية.

و"ستراوس كان" وزير سابق في الحكومة الفرنسية شغل حقيبتي المالية والصناعة، وعضو سابق في البرلمان الفرنسي، وأكاديمي وأستاذ جامعي متخصص في الاقتصاد والقانون. وقد يتوقع المرء أن شخصاً بهذه الخلفية والمنصب سيكون أكثر انضباطاً، على الأقل للحفاظ على مكانته، إن لم تمنعه الأخلاق والحرص على تماسك أسرته وسمعتها، فما بالك وهو يطمح إلى أن يكون رئيساً لفرنسا؟ فقد نزل الخبر على الفرنسيين كالصاعقة، خاصة بين أنصار المعارضة اليسارية التي وجدت فيه أملها للعودة إلى سدة الرئاسة وهزيمة ساركوزي في انتخابات عام 2012. وبالطبع فالمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته، ولكن معرفتي بحرفية شرطة نيويورك، خاصة في التعامل مع كبار الشخصيات، تجعل من الصعب أن تكون التهم غير ذات أساس. ويبقى الاحتمال الوحيد ـ وهو بعيد وإن كان أنصار "ستراوس كان" في فرنسا لم يستبعدوه ـ هو أن يكون الحادث مدبراً من قبل خصومه السياسيين.

وثمة أمر، فهذه ليست أول مرة يتعرض فيها "ستراوس كان" للشبهة الأخلاقية. ففي عام 2008م، تعرض للنقد الشديد من قبل إدارة الصندوق بسبب ثبوت ارتباطه بعلاقة غير شرعية مع إحدى مرؤوساته في الصندوق، مما دفعه للاعتذار علناً عن تلك العلاقة، وهو ما يخالف قواعد العمل في الصندوق.

وإذا ثبتت التهمة، أوحتى مجرد تأكد الشبهة، فإن مستقبل "دومينيك ستراوس كان" على رأس صندوق النقد الدولي أصبح في خبر كان، مثل طموحاته السياسية. أما إذا ثبت أن الحادث مدبر، كما يحلم أنصاره، فإن فوزه برئاسة فرنسا شبه مؤكد.

وتذكّرنا هذه الحادثة بفضيحة أخرى كان المتهم فيها "بول وولفويتز" رئيس البنك الدولي، المنظمة التوأم في واشنطن لصندوق النقد الدولي، في عام 2006، حين اضطر وقتها إلى الاستقالة من ذلك المنصب بسبب تدخلاته لمصلحة صديقة له (من أصل عربي) كانت تعمل في البنك، وفصله لعدد كبير من كبار المسؤولين في البنك ممن اعترض على تلك التصرفات.

وتدل هاتان القصتان على أن التوجهات السياسية لا دخل لها في هذه السلوكيات الغريبة، ذلك أن "ستراوس كان" من اليسار الفرنسي، في حين أن "بول وولفويتز" من أقصى اليمين، باعتباره أحد أقطاب حركة "المحافظين الجدد"، الذراع الإيديولوجي لليمين الأميركي.

هذا عن المسؤولين الغربيين، فماذا عن المسؤولين العرب في هاتين المنظمتين؟ من حسن الحظ أنه لم تظهر حولهم فضائح جنسية من هذا النوع، ولكن التهم عليهم مالية من العيار الثقيل. وأذكر هنا شخصين فقط من كبار المسؤولين في البنك الدولي، أحدهما وزير مالية سابق في نظام الرئيس حسني مبارك في مصر، وسارع بالاستقالة من منصبه في البنك الدولي فور نجاح الثورة في مصر، وتوارى عن الأنظار، وهو اليوم مطلوب للتحقيق في مصر. أما الآخر، فهو أحد كبار المسؤولين في البنك الدولي ووزير سابق أيضاً في نظام حسني مبارك، وهو محل التحقيق في مصر أيضاً، ولكنه يرفض العودة إليها لمواجهة التهم المالية التي يجري التحقيق فيها.

فماذا يحدث في هذه المنظمات الكبرى ويجعل العقلاء من قياداتها يرتكبون هذه الحماقات؟! أهي ثقافة مؤسسية تُقنع رئيس الجهاز بأنه معصوم عن الخطأ وفوق المساءلة؟ أم هو ضعف الرقابة على عمل هذه المؤسسات؟ أم إننا نطلب من قادتها الالتزام بأخلاقيات أعلى مما نتطلبه من عامة السياسيين، باعتبارهم يعملون في منظمات تحكمها مبادئ أخلاقية عالية تتطلبها مهام هذه المنظمات التي أوكل إليها العالم إدارة نظامه المالي؟