الشهداء بالجملة في العالم العربي، أو بالأحرى من يُطلق عليهم لقب شهداء أكثر من الهم على القلب؛ فالإعلام والمحللون السياسيون، وقادة الفصائل والمنظمات يقتحمون الميدان الطاهر ليل نهار جازمين أن أتباعهم شهداء أو في طريقهم إلى الشهادة، وكذلك من يريدون المزيد من المكاسب لتحقيق أي هدف سياسي بحت؛ لا بد أن يقدموا لنا قرابينهم/ قتلاهم على طبق شهادة أو استشهاد؛ فهم يعلمون جيداً ماذا تعني الشهادة في ثقافتنا الإسلامية الأصيلة. لكن الحقيقة شيء آخر تماماً؛ فالشهيد الذي يعرفه أقل المسلمين تخصصاً، والذي كان يسقط في بدر وأحد وبقية المعارك الخالدة كان الصحابة يقولون عنه: عسى الله أن يتقبله شهيداً، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم بنفسه قائلاً: اللهم تقبلهم في الشهداء، ولم تكن الأحكام بهذه الدقة في التصويب والتزكية؛ بل والجزم المؤذي الذي نراه في الإعلام، وعلى ألسنة قادة الفصائل السياسية المتناحرين على الدوام. اليوم تجد في كل ربع من ربوع العرب شهداء يتغنى بهم الناس، وتتحدث عنهم نشرات الأخبار في كل ساعة، وكأن هذه الأرض العربية المباركة ـ هي فعلاً ـ تروى يومياً بدم الشهداء، بيد أن الواقع المؤلم أن هذه الأرض تروى بدم قتلى عاديين جداً يُحركهم أصحاب منافع دنيوية لا علاقة لها بالدين، وفي أحسن الأحوال مناضلون أبرياء يحركهم سياسيون نفعيون، أما شهداء فلا، وإلا لكان الوضع غير الوضع، ولتحررت فلسطين والجولان وبقية الأراضي المغتصبة منذ عقود طويلة.. أكذوبة الشهداء تلك جعلت كل شاب طاهر ونقي يبحث عن الشهادة ويعرض نفسه للهلاك في سبيلها، وهو لا يدري في نفس الوقت أنه مجرد أجير صغير في منظمة سياسية كبرى، أي شهيد سياسي بحت وعاثر الحظ، ينطلق إلى حتفه بمال أو برفع معنويات، وإن شئتم الدقة فهو: قتيل سياسي في أحسن الأحوال، وشتان بين شهداء من أجل الله، وآخرين من أجل منافع الدنيا؛ فالقاعدة وحزب الله، وفتح وحماس، والصدريون والبعثيون، والقوميون وحتى الاشتراكيون؛ يقتل بعضهم بعضا ليل نهار؛ ثم يدخلون جميعاً في خانة الشهداء بمجرد فيضان الروح، أو بالأحرى يُدخلهم الإعلام في زمرة الشهداء، ويحشر كل حزب سياسي عربي أتباعه في مواجهة الحزب المنافس له الذي يشاركه نفس الدين واللغة والوطن؛ ثم يمنح كل طرف قتلاه لقب الشهادة وعلى عينك يا تاجر! وتحت هذا اللقب الجميل تكتب آلاف صكوك الغفران المكذوبة عبر شريط تزكية يأتي من أي كهف خارج على النظام والأخلاق والعرف الإنساني، وتتم (شرعنة) كل ذلك بخبر على الشاشة، وتستمر المفرخة.. حتى إن الذين لم يركعوا لله ركعة واحدة من بقايا الشيوعيين والملحدين؛ أصبح بإمكانهم أن يُلقبوا بالشهداء، وبسهولة تامة في ظل هذه الثقافة العربية الراهنة التي يشوبها الكثير من الاختلال، وكذلك الذين يقاتلون تحت أي راية تحركها غرفة مخابرات هم أيضاً شهداء!.. إن ثقافة الشهيد بحاجة لإعادة نظر وتصحيح من قبل علماء المسلمين وليس من قبل الدعاة الذين ساهموا في نشرها بطريقة خاطئة وربما من غير قصد؛ قبل أن يهلك بقية الشباب العرب ويؤخذوا في لحظة جهل، وبحاجة لإعادة طرح معاصر وواقعي يزيل الكثير من اللبس والدخل؛ فما نراه اليوم في أغلبه هو مجرد قتلى سياسات دولية وداخلية متضاربة؛ تسعى إلى السلطة، وقتلى أحزاب سياسية يحركها بعض المنتفعين ولا علاقة لها بالشهادة لا من قريب ولا من بعيد. فلماذا إذن يطلق الإعلام على قتلى المنافع السياسية الواضحة لقب شهداء؟ وأين المهنية التي تتشدق بها بعض الفضائيات تحديداً؟ وحتى لو كنا نتعاطف مع المناضلين والثوريين وغيرهم من أصحاب البلاد العربية المحتلة داخلياً أو خارجياً؛ إلا أنهم عندما يقتل بعضهم بعضا فيجب أن نضع الأمور في نصابها، وألا نرفعهم لمراتب عالية لا يستحقونها؛ نعم لقب شهيد يثير عواطف العامة، وربما كل الأسوياء أيضاً، وفي اللعبة السياسية عليك أن تجيد الاستقطاب بأي وسيلة، ومع ذلك فلا شهداء خلف طموح سياسي، حتى لو صرخ كل الإعلام العربي وتغنى بقتلاه؛ لأن الشهادة الحقيقية لم تكن يوماً من أجل فصيل أو حزب سياسي كما هو الحاصل اليوم، ولا تحت أي راية وكيفما اتفق؛ بل لها شروط وضوابط لو عمل بها العرب اليوم لتغير الحال والمآل.. أما شهداء الإعلام؛ فأغلبهم بركات مجانية لن يحسد عليها يوماً هذا الشعب العربي الطيب الذي يصدق كل شيء.