سنغافورة، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، دول طورت من نفسها لتتحول من دول عالم ثالث، تعتمد على العالم المتقدم، ينتشر فيها الفقر، يعتبر فيها معدل دخل الفرد الأقل في العالم، يسود فيها الفساد الاداري والمالي، تعاني أدنى المستويات في مستوى التعليم والصحة، إلى دول تتبوأ المراكز الأولى في جميع مؤشرات التنمية: التعليم والموارد البشرية والخدمات الصحية والخدمات والدخل، والأهم أنها أصبحت وخلال عقدين من الزمان من أعلى الدول في الرفاهية، لنتساءل: كيف نجحت هذه الدول بالتحول من لا شيء إلى كل شيء؟ وكيف تحولت من حالة الفساد إلى حالة التنمية؟
منذ تأسيس المملكة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن رحمه الله عام 1932 م، كان هناك عمل دؤوب لوضع التنظيمات والتشريعات المناسبة لكل فترة مع تحديثها كلما استجدت الظروف وتغيرت المتطلبات، فكان هناك لجنة الإصلاح الإداري التي بدأت أعمالها في بداية الستينات الميلادية وتبعها إنشاء لجنة التطوير الإداري في بداية الثمانينات الميلادية، والتي نتج عنها عدد من التنظيمات الإدارية، منها إنشاء وزارات وهيئات جديدة ودمج وزارات، مع إنشاء وكالات للتطوير داخل كل وزارة، إضافة إلى جهات رقابية قائمة مثل ديوان الرقابة العامة وهيئة الرقابة والتحقيق، وكذلك وزارة المالية – المسؤولة دائماً عن مراقبة ومتابعة إجراءات ما قبل الصرف. واستمراراً لهذا النهج، وإيماناً واستمرارا لما بدأه المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله ودعماً لمسيرة التنمية الشاملة في المملكة، بادر خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والتي تمثل خطوة أولى ولكنها مهمة وأساسية في طريق التطوير والإصلاح الشامل.
كان إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد إحدى التوصيات التي تضمنتها الخطة الوطنية لمكافحة الفساد والتي تم تطويرها داخل أروقة مجلس الشورى وتم اعتمادها من قبل مجلس الوزراء عام 2007 م، وخروج الهيئة وقرب بدء أعمالها، مع ربطها إدارياً بخادم الحرمين الشريفين تعكس الرغبة والإرادة للقيادة العليا في تحسين بيئة العمل التنظيمية والإدارية والرقابية من ناحية، كما تمثل نجاحاً لمجلس الشورى في لعب دور الاستشاري والمفكر الإستراتيجي للدولة من ناحية أخرى.
وحتى تتمكن الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد من القيام بدورها على الوجه الأمثل وبما يرضي الله أولاً ثم قيادة الدولة ممثلة في خادم الحرمين الشريفين، ينبغي أن نستوعب الدروس التالية من تجارب دول مثل سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا في محاربة الفساد:
1ـ لا بد لنا أن نعترف أولاً بأن المهام والمسؤوليات التي أوكلت للهيئة ليست سهلة وتحقيقها ليس ميسراً، ولكنه أيضاً ليس مستحيلاً متى ما توكلنا على الله أولاً، ثم توفرت الرغبة والإرادة العليا، مع توفر فريق عمل ذي كفاءة وخبرة ونزاهة وأمانة.. عوامل تمثل مجتمعة أسباب النجاح لأي مشروع.
2ـ إن أهمية محاربة الفساد تتمثل في ضرورة فهم خطر الفساد على التنمية، فالفساد هو عدو التنمية، ويمكن النظر في تجارب عدد من الدول التي انتشر فيها الفساد المالي والإداري وكيف تسبب ذلك في تدهور وضعف اقتصاداتها، مما يشير إلى ضرورة محاربة مثل هذه المعوقات لضمان وجود تنمية اقتصادية نوعية وحقيقية.
3ـ من أهم متطلبات الحرب على الفساد ضرورة وضع والموافقة على تعريف محدد للفساد. ولدينا أولاً الشريعة الإسلامية كمصدر أولي لتعريف الفساد وتحديد أشكاله، كما ينبغي الاستفادة من تجارب الدول الأخرى في محاربة الفساد، وليس فقط الناجحة منها بل وحتى تلك الدول التي لم تنجح، وذلك للحصول على دروس مستفادة، دروس تساعد في تحديد ما يجب القيام به وما يجب تجنبه، دروس توفر الوقت والجهد وتزيد من فرص النجاح، فهناك دول مثل سنغافورة ونيوزيلندا لم تنجح في مشاريعها الاقتصادية التنموية إلا بعد أن بدأت أولاً بمحاربة الفساد، بينما هناك دول مثل نيجيريا، وهي دولة غنية بالثروات الطبيعية، ضعف اقتصادها وتعاني من مشاكل اقتصادية متعددة مستمرة ومتزايدة، كل هذا نتيجة لانتشار الفساد فيها.
4ـ ومن أهم متطلبات تعريف الفساد أيضاً تحديد ماهية المال العام، فينبغي أيضاً وضع تعريف محدد ودقيق للمال العام، فالمال العام يتضمن أصولاً مختلفة منها الأرض والمال النقدي والوظيفة والامتيازات وغيرها، كما أنه يجب التفريق بين ممارسة الصلاحيات بما يخدم المصلحة العامة مقابل ممارسة الصلاحيات بما يخدم مصالح خاصة، فسلامة الأوراق المستندية قد لا تعني بالضرورة سلامة العملية نفسها وتمشيها مع المصلحة العامة.
5ـ ضرورة التفريق بين منع الفساد واكتشاف الفساد، حيث إن الدروس المستفادة من تجارب الدول بنوعيها الناجحة والفاشلة، إضافة إلى متطلبات تطبيق مبدأ المحافظة على الأصول، توضح بما لا يقبل الجدل أنه من الأهمية بمكان التركيز على منع الفساد أو ما يسمى بالرقابة المانعة (Preventive Controls) كأساس ومنطلق في منهجية عمل أي جهة تعمل في مجال مكافحة الفساد، مع عدم إغفال دور اكتشاف الفساد أو ما يسمى بالرقابة الاكتشافية (Detective Controls) كبوابة أمان وحماية إضافية.
ولكي يتم منع الفساد، ينبغي إعادة النظر في طريقة تخطيط واعتماد وتنفيذ المشاريع وصيانتها، والتي تمثل أهم استخدام للمال العام، وهي كذلك الأكثر عرضة للتلاعب من مصاريف الرواتب وغيرها. فطريقة العمل في المشاريع يغلب عليها العمل الفردي، مع غياب دور تنظيمي لتخطيط ورقابة فنية وإدارية على المشاريع، غياب تنظيمي ينبغي أخذه في الاعتبار والتعامل معه أثناء وضع نظام الهيئة وطريقة عملها.
هذه بعض الملاحظات والمقترحات التي نأمل النظر فيها ودراستها، ونحن كلنا ثقة وأمل ودعاء لإدارة الهيئة المكلفة بأن تقوم بمهامها على الوجه المطلوب وبدعم لا محدود من القيادة وبتوقعات أيضاً لا محدودة - ولكنها عادلة ومطلوبة – من كل مواطن ومواطنة يشكلون مجتمعين اللبنة الأساسية لهذا الوطن. وللحديث بقية...