قالت واشنطن إنها قتلت أسامة بن لادن في عملية عسكرية خاطفة بدون علم حليفتها إسلام أباد.. وقالت باكستان الرسمية إنها لا تعلم عن "العملية" رغم أنها شريك في "الحرب على الإرهاب" وأنها هي التي قدمت المعلومة الأولى التي قادت إلى التخلص من المطلوب الأول في العالم..
الأمريكيون مبتهجون بالإنجاز السينمائي الذي يظهر الجندي الأمريكي بطلاً يتخطى الحواجز، يحطم العوائق لينقض على "العدو" بعد أن يشل حركته في لمح البصر.. والباكستانيون الرسميون واقعون في "وحل" العملية، فلا هم بقادرين على التنصل منها كاملة ولا هم يجرؤون على الاعتراف بدورهم المهم في إتمامها حتى لا ينفجر الداخل المحتقن نتيجة لتوالي العثرات والفشل في أكثر من جبهة.. وهكذا أوقع بن لادن باكستان في "ورطة" وهو ميت كما ورطها في أزمات وهو حي.. فهذه الأزمة تضع تحالفها مع الولايات المتحدة على المحك بل يمكن أن تهدد استقرارها وتضاعف مشاكلها الأمنية..
والحقيقة أن العلاقة الباكستانية الأمريكية علاقة "ملتبسة" منذ فترة لأنها تخفي تناقضا حقيقيا بين المصالح الجوهرية للبلدين حتى وإن أظهر الخطاب المعلن اتفاقا على السياسات الأمنية.. وهذا التناقض "الخفي" بدأ يتعاظم منذ أن حولت واشنطن اهتمامها وتحالفها الاستراتيجي في شبه القارة الهندية من إسلام أباد إلى نيودلهي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي، الأمر الذي ترك "مرارة" في نفوس الباكستانيين الذين ربطوا مستقبلهم بالولايات المتحدة الأمريكية طوال فترة الحرب الباردة.. وأبرز ما تكون هذه المرارة في نفوس المؤسسة العسكرية التي شعرت أن الحليف العارف بأسرارها وقدراتها يكشف ظهرها وينقل اهتمامه إلى الخصم التاريخي.
وكانت سنوات ما عرف بالجهاد الأفغاني قد ساعدت على تكوين تيار يتغذى على روح الشك في صدق الحليف الأمريكي. وتشكلت "خطوط متجانسة" من الضباط والجنود المؤمنين بأن "الأمة" جديرة بأن ترفض الاعتداء على أراضيها، والوقوف في وجه "كل المعتدين" على الأرض الإسلامية.. وهذه "البذرة" المتنامية في الوجدان الباكستاني كانت من نتاج الماكينة الإعلامية التي جندت كل وسائل التأثير من: خطب المساجد، ومحاضرات الشيوخ، وتجمعات الشباب، وبث روح الحماس والتزهيد في الدنيا والترغيب في ما عند الله.. لقد نجحت "الحملة" الإعلامية المنظمة التي قادها "الحلفاء" في دعم "المجاهدين الأفغان" في خلق "روح" متغلغلة في نفوس أجيال من الذين تجمعوا على أرض باكستان طوال سنوات المقاومة. ولم يكن الجيش الباكستاني المحترف بمعزل عن هذا "الشحن" العاطفي المنظم.. وليس سراً أن الاستخبارات الأمريكية كانت هي المحرك والمغذي لهذا التيار "الجهادي" الذي تقود الحرب ضده اليوم. والحلقة الثانية من "العلاقة الملتبسة" بدأت حين "انفض السامر" وانسحب الروس من الأراضي الأفغانية واختلف "المجاهدون" على تقسيم التركة وتكشفت حقائق على أرض الميدان فإذا القائد الميداني الشهير أحمد شاه مسعود ليس "أمريكياً" خالصاً وإن له جسوراً ممدودة مع دول كبرى أخرى مثل فرنسا، وقد "يجير" نتائج الجهاد لأوروبا، حينها تنبهت واشنطن للخطر والتقت مصالح باكستان مع الخوف الأمريكي فشرعوا في "خلق" عامل معادل لانتصارات الشمال الأفغاني، وهكذا برزت فكرة "طالبان" التي هي وليد "تخلق" في معامل الاستخبارات الأمريكية وأروقة مدارس الحديث الباكستانية برعاية وزير داخلية بي نظير بوتو الجنرال بابر.
وهكذا يبدو حديث الأمريكيين وخوفهم وتوجسهم من وجود عناصر متعاطفة مع القاعدة في المؤسسة الأمنية الباكستانية له ما يبرره من خبرات سابقة عمل فيها الشريكان معاً، وعرف كل واحد منهم الآخر و لم تخل علاقاتهما من "شكوك" مبعثها عدم الرغبة في كشف كل "الأوراق". ويشعر الكثير من الباكستانيين أن العلاقة مع الأمريكيين تتسم "بالانتهازية" الظرفية التي لا ترسخ الثقة بين المتحالفين.. وهذا "التوجس" المتوقع لدى بعض عناصرالمؤسسة الأمنية تغذيه روح عامة يختلط فيها الديني بالموروث الشعبي، خاصة في المنطقة التي يجري فيها الصراع حيث القبائل التي تترسخ في تقاليدها نزعة القتال ورفض الانصياع والخضوع حتى للحكومة الوطنية.. وإلى سنوات قريبة – في نهاية الثمانين من القرن الماضي – كانت منطقة القبائل تحكم بالأعراف القبلية، وكانت الحكومة الفيدرالية والإقليمية لا تتحرج من الإعلان أن منطقة القبائل لا تخضع للسيطرة.. وقد رأيت بعيني لوحة لا تبعد عن بيشاور تقول: "خلف هذه اللوحة منطقة قبائل والشرطة ليست مسؤولة عن سلامتك".. وقد أفزعتني حينها تلك اللوحة، لكن مرافقي الباكستاني هدأ من روعي حين قال: لا تخف فالقبائل أيضاً لها نظامها وقيمها وإذا لم تتجاوز المتعارف عليه أو تتعدى الأعراف فأنت آمن.
ويشعر الباكستانيون – على مختلف انتماءاتهم الحزبية – أن التعاون مع الأمريكيين لم يساعد الحكومات المتعاقبة على مواجهة مشاكل البلاد الحقيقية المتعلقة بالاقتصاد وتحسين أحوال الناس وحل المشكلة المزمنة مع الجارة الهند، بل إن سنوات التعاون على محاربة الإرهاب أدخلت البلاد في نفق مظلم سمم الأجواء وجعل البلاد منطقة خطرة مما طرد الاستثمار واستهلك الموارد القليلة في الإنفاق على "الأمن" فزادت المشاكل واتسعت مظلة الفساد وتراجعت الحريات تحت ذريعة الأمن وحفظ وحدة الوطن. ويقول الباكستانيون إن المعونة التي تقدمها واشنطن لمحاربة الإرهاب (مليار دولار سنوياً) لا تساوي الخسارة المادية والمعنوية التي تتكبدها، فقد أصبحت منطقة "معزولة" عن عالمها الإسلامي بعد أن كانت موضع تطلع الكثير من الدول الباحثة عن الاستثمار وبهذا تعطلت الإمكانيات البشرية والزراعية والاقتصادية والصناعية. والغضب الباكستاني يقابله غضب أمريكي لاعتقادهم أن "عناصر" في الجيش والأجهزة الأمنية الباكستانية قد ساهمت بطريقة أو أخرى في تسهيل إقامة المطلوب الأول بجوار منطقة عسكرية لمدة خمس سنوات.. وهذا الغضب الأمريكي يضع ظلالاً على مساحة الشكوك بين "الحليفين" فيجعها مرشحة للمزيد من الألوان الداكنة.
والذي يبدو في الأفق أن العلاقة بين البلدين تمر بأحرج أوقاتها خاصة إذا شعر الباكستانيون أن الأمريكيين يستعدون "للرحيل" بعد انتهاء المهمة الأساسية – قتل بن لادن – وهذا معناه ترك "التركة الثقيلة" لإسلام أباد بدون المعونة الناقصة (مليار دولار) وبدون الغطاء العسكري الذي كان يساهم – إلى حد ما – في مساندة هيبة الحكومة الفيدرالية. فهل تدفع باكستان وحدها فاتورة مطارد زعيم القاعدة ومقتله على بعد خطوات من إحدى ثكناتها العسكرية مع ما أورثه من "مهانة" عسكرية وغضب شعبي؟