في الحوار يتكامل كل طرف مع مقابله، في مركب جديد متطور متفوق على كل من المركبين السابقين.
وفي الصدام يلغي كلُ طرف الآخر، ليموتَ الاثنان في النهاية؛ ففي اللحظة التي يلغي فيها أحد الأطراف الطرف الآخر يكون قد حكم على نفسه بالإلغاء؛ فالحوار هو آلية نجاة الجميع، لأنه وثيقة الاعتراف المتبادل بالوجود الذي أسبغه الله على الجميع.
يروى في حوار جرى بين اثنين أن أحدهما قال للآخر: هل لك في الحوار؟ فقال على عشرة شروط!!
قال وما هي؟
قال: (ألا تغضب، ولا تعجب، ولا تشغب، ولا تحكم، ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك، ولا تجعل الدعوى دليلا، ولا تجوز لنفسك تأويل آيةٍ على مذهبك، إلا جوزت لي تأويلَ مثلها على مذهبي، وعلى أن تؤثر التصادق، وتنقاد للتعارف، وعلى أن كلاً منا يبغي من مناظرته؛ أن يكون الحق ضالته والرشد غايته!!).
وهذه الفقرة الرائعة عرفتها من مجلة 15\21 التونسية وهي تستعرض مدارس التاريخ الإسلامي. وأنصح كل قارئ أن ينقشها بخط جميل ويضعها في مكتبه للتأمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
وهذه الآلية من التربية على الحوار والمفاوضات هي نقلة عقلية منذ الطفولة، وهنا تلعب التربية وعن طريق الأم دورا في تشكيل الإنسان، وأنا شخصيا أتذكر عمي زكي جيدا كيف اشتد غضبه علي وهو الحليم لأنني ناقشته ونصحته فتعجب من جرأة الصغار على الكبار (كذا؟).
وأذكر تلك الواقعة تماما حين دخل عليَّ صديقي التركي (عاصم) مع طفله الصغير، الذي أعجبته مكتبتي وألوان كتبها، فانطلق في هذا العالم الجديد يعس فيه ويكتشف؛ إلا أنه سرعان ما عاد إلى منعكسات اللجم التي تعُوِّد عليها فكانت والدته لا تنطق إلا بألفاظ: ابتعد لا تلمس أو لا تقترب وممنوع!
المهم كان حرف (لا) يتكرر كالمطرقة على رأس الصبي المذهول، بين جاذبية المكتبة وأغراضها، وبين حرف (لا) العنيد البئيس والمتكرر!
وبقي الطفل يتأرجح بين كلمات اللجم والقانون الميمي الثلاثي (ما يصير. ممنوع. ما في) ونظرات التخويف، وبعض من صفعات والده التربوية! وأردت أن أقوم بتجربة صغيرة مع هذا الطفل فبدأت في (حواره) وكان دوري أن أعلمه (أسماء الأشياء) ومن خلال التعريف أسمح له بالدخول إلى العالم المزدحم من حوله؛ فبدأ الطفل فتجرأ فـ(نطق) وتجاسر فتكلم فـ(سأل)، ولكنني أدركت أن هذا الطفل (الصفحة البيضاء) يتشكل فيه (نقشنا) بقدر الجهد المبذول من خلال ساعات العمل.
والإنسان كمعادلة ليس أكثر من وضع صيرورة، ومحصلة تراكمية بطيئة للحظات الجهد الواعي، خلال وحدات الزمن المتدفق التي مرت قبل كل لحظة جديدة.
وهذا التراكم لا يتوقف إلا بالموت، فالموت هو توقف الصيرورة، وإن كان كثير من الناس أمواتا وهم محسوبون من الأحياء.