منذ سنوات ومنذ تاريخ احتلال الجامعات السعودية ذيول قوائم التصنيف الأكاديمي العالمي وجامعاتنا في سباق محموم على تحصيل شهادة الاعتماد الأكاديمي التي لا تضيف إلى العملية التعليمية كثيراً، كما أراها من قريب ويراها الكثيرون. وتتنافس الجامعات على عدد الأقسام التي تحقق الاعتماد، أو عدد الكليات، وبرامج الماجستير والدكتوراه. وعندما أدركنا أن مستوى التعليم العالي، يتدنى يوماً بعد يوم، أخذت الجامعات السعودية على عاتقها مسؤولية التسلق على سلم الاعتماد الأكاديمي، وسلكت لذلك أقصر الطرق وأسهلها، وكل ما يمكن أن يشتريه المال، حتى بالغنا في كل شيء، وغدا الأمر مبتذلاً.

في الماضي، وبينما لم تكن جامعاتنا من المصنفة عالمياً، ولم نكن قد سمعنا بعد ببرامج الاعتماد الأكاديمي، تخرج طلابنا من جامعة الملك عبد العزيز وجامعة الملك سعود وغيرهما، والتحقوا للدراسات العليا بأرقى جامعات العالم وحتى المصنفة من العشر الكبار كـ "إم آي تي" و"هارفرد" و"أكسفورد"، وغيرها، وحققوا أعلى مستويات التحصيل، وتفوق بعضهم على أقرانهم من الدول المختلفة وخريجي الجامعات المعتمدة.

لا ننكر أننا قفزنا على السلم خطوات بفضل جهود القائمين على برامج الاعتماد الأكاديمي في الجامعات، جهود فيها طاقة وهمة لا ترى لها نظيراً في البرامج الأخرى في الجامعات، وتستحق الشهادة. ولن ننسى العنصر الأهم، الدعم السخي والإنفاق غير المحدود وغير المشروط على برنامج الاعتماد الأكاديمي للارتقاء بمستوى العلوم والمعرفة في هذه البلاد. لكننا بالغنا.

عندما تخرج للتسوق ولو لفرشة أسنان أو شفرة للحلاقة لا يدخل في الحساب سوى جودة المنتج، أما رواتب موظفي المنتج، وفخامة مكاتب الشركة فليس لها أي اعتبار ولا تؤثر على قراراتنا الواعية، وإن كان كما يزعم علماء النفس، لها تأثير في اللاوعي. طلابنا يتزاحمون اليوم على أبوب الجامعات ولا أظنهم أخذوا في اعتباراتهم الاعتماد الأكاديمي، هذا لمن له الخيار. ومن يحاجج أننا نشيد البنية التحتية لمن يأت بعدنا، لا يسعنا إلا أن نتفق معه، ولكننا نبالغ في هدر المال العام.

صرفنا المليارات وكثير منها لنيل شهادة الاعتماد الأكاديمي وأختامه "المزيفة"، فما هو هذا الاعتماد الأكاديمي الذي اتخذناه صنماً لا نكل نعظمه؟ لدرجة أن كل البرامج النشطة في عامة الجامعات الكبيرة باتت مرتبطة به، وتفرغ الجميع لخدمته، وتراخت أمامه اهتماماتنا حتى بالتعليم وتحصيل المعارف، الذي هو الهدف الأول من بناء مراكز البحث والمعاهد والجامعات، والأساس في إعداد الأجيال القادرة على اللحاق بركب الأوائل.

كان الاعتماد الأكاديمي في نهاية القرن التاسع عشر برنامجاً تطوعياً لتوعية المواطن الأمريكي بمستوى مؤسسات التعليم العالي، حتى تتسنى له المفاضلة بينها على أساس قدراتها التعليمية ومناسبتها للتخصص المهدوف، وكي تعينه على اتخاذ القرار المناسب عند الاختيار. وكان من أهدافها أيضاً تعريف المواطن بالمؤسسات التعليمية المتميزة، خاصة وأن هناك جامعات ومعاهد مرموقة خارج نطاقه الجغرافي.

وتأسس، على ضوء ذلك، برنامج الاعتماد الأكاديمي، وكان بناءً على رغبة بعض الجامعات في الإعلان عن تميزها والتعريف بمستواها الأكاديمي، وتشكلت لذلك الجمعية، أو ما يشبه الاتحاد بين بعض الجامعات المعروفة، وتم وضع برنامج الاعتماد الأكاديمي الطوعي في ذلك الوقت. وظل كذلك حتى بداية القرن العشرين إذ تغير البرنامج إلى مؤسسة رسمية، وأصبح للاعتماد مقاييس وضوابط. وبعد الحرب العالمية الثانية قرر الكونغرس في عام 1944 دعم المجندين العائدين من الحرب، بتقديم القروض المالية لهم لإكمال الدراسة بعد الثانوية، وكان للمجند كامل الحرية في اختيار الجامعة. ودب الفساد في برنامج دعم المجندين، وذهبت الأموال الفدرالية إلى مؤسسات تعليمية، تجارية، فاسدة.

وتنبهت لذلك الحكومة الأمريكية، فأقرت نظاماً لا يسمح بصرف الدعم إلا للمؤسسات المعتمدة أكاديمياً، فأصبح الاعتماد الأكاديمي، بذلك، ضرورة تسعى لتحصيلها الجامعات والمعاهد للتنافس على أموال الحكومة الفيدرالية. ثم نما ليصبح قوة تسويقية وآلة دعائية، لكسب مزيد من الطلاب في أسواق التعليم، ولكنه بقي برنامجاً اختيارياً، وإن فرضته ظروف المنافسة. وظل كذلك إلى وقتنا الحاضر ولكن خف ثقله، وخبا ضوؤه في عملية المفاضلة بين الجامعات لأسباب، أهمها عجزه في تقويم مخرجات المؤسسة من الناحية الأكاديمية.

وفي عام 1985 أدركت الحكومة الأمريكية عجز البرنامج، وطالبت بتطويره وإدراج مستوى التحصيل كواحد من مقوماته وليس على خلفية مدخلات المؤسسة الأكاديمية وإمكاناتها المادية، فلقيت مقاومة شرسة من الجامعات ومؤسسات الاعتماد الأكاديمي، وانتهت المعركة بإدخال تعديلات لا قيمة لها في رأي كثير من الأكاديميين، أهمها التطوير بعمومه، حتى في المظهر وعدد مخارج الطوارئ، كمقياس، ولا يزال الجانب التحصيلي للعلوم خارج دائرة الاهتمام. لقد بدأ برنامج الاعتماد الأكاديمي لتثبت بعض الجامعات تميزها، وتظهره للمهتمين، أما اليوم، فتدفع وتبتاع تميزها كما نفعل، ويفعل غيرنا.

عندما انتقلت فوبيا الاعتماد الأكاديمي إلى أرجاء العالم الثالث كصناعة ربحية تدر الأموال من رسوم الاستشارات في أساليب التطوير، كنا سباقين ومغالين.

عندهم، كان الاعتماد الأكاديمي سبيلاً لكسب أموال الحكومة الفيدرالية، وعندنا ... لا شيء إلا التباهي بأختام المؤسسات الغربية!