ينطوي البشر، كما يذهب فرويد، على غريزة العدوانيّة والتدمير. ومهما ترقّى هؤلاء البشر في سلّم الحضارة والمدنيّة والحداثة؛ فإن هذه الغريزة لا تكفّ عن الظهور. يشهد على ذلك الحروب الكونيّة والإقليميّة، وحتّى ضمن الجماعات التي تشبكها أكثر من آصرة وتجمعها أكثر من وشيجة. ثمّة تقاطعات تنقدح فيها نارُ العداوة بأسرع من البرق، فيخرج ما هو كامن إلى العلنيّة في أشدّ صورِ قبحا وتقيّحا. وكأن الزمن الكفيل بمعالجة كل الجروح والأورام، لم يعمل إلا على إذكاء هذه الجروح والنفخ في تلك الأورام.

ينكشف الغطاء في لحظة عن مخزونٍ هائل من الكراهية العريقة المعتّقة. يندلع حريقٌ عاتٍ يحاول أن يأتي على جذر الوجود لـ "الآخر" المخالف في القوميّة أو العرق أو الدين أو المذهب أو الطائفة. ينتعشُ طائر الكراهيّة فيحلّق ناشرا ظلّه الأسود صانعا الخنادق والفواصل والمتاريس، فإذا بالهواء يقتحمه دخانُ الولاءات الصارمة التي لا تتقبّل إلا بالركون إلى لونٍ واحد، وإلى فئة معيّنة وضعتْ لنفسها شارات التميّز وعلامات الاصطفاء.

في كتابه "كراهيّات منفلتة ـ قراءة في مصير الكراهيّات العريقة" يقدّم د. نادر كاظم عرضاً يتوسّل التاريخ والحاضر، بما هما أحداث دالّة على سيرورة الكراهيّة المنتعشة دوما والقابلة في كلّ ظرفٍ للترهين والتوظيف والتصنيع تبعا للمصالح والفوائد التي تأتي بها دهاليز السياسة والوقائع الاجتماعيّة.

يسجّل المؤلف أنّ إنتاج الكراهيّة كان محكوما بالعزلة الجغرافيّة والمكانيّة والتاريخيّة، حيث ينفتح قوس الجرأة إلى منتهاه للتسديد جهة المخالف؛ تشنيعاً وإلغاءً. ورغم أن من تتوجّه إليه حممُ الكراهية غيرُ موجود في المدى العيني وتحجبه المسافة، إلا أن لهذه الحمم وظيفتها في تساند الجماعة ولحمِ عضويّتها. بمعنى أن تلك الانفعالات الصادرة عن الكراهية وبسيلها الوجداني المتأجّج تسهم في تعلية جدار الحماية للجماعة وأفرادها.

هذا التصريف للكراهية إذا كان مفهوما في العصور الماضية حيث المسافات الشاسعة، وزاد المعرفة القليل بالآخر والمُعبّأ أيضا بالتوجس والحذر والتوهّم، إلا أنه من الغريب في العصر الحاضر؛ المتعولم بالاتصالات وخرق المسافات، ونشوء القوانين التي تجرّم الكراهية وتجعل لها ثمنا باهظا يدفعه كلّ من تسوّل له نفسه المجاهرة بالكراهيّة والحطّ من شأن الآخر سخريّةً واحتقاراً ولو بكلمة عابرة.. من الغريب أن الكراهيّة ما تزال طليقة تفعل فعلَها بما هو أنكى في الأزمنة الغابرة. يسنِد د.نادر كاظم هذا الصمود والانتشار للكراهية إلى أنّ العزلة تحوّل مفهومُها مع وسائل الاتصالات الحديثة وصعود ما يُسمّى بـ "المجال العام". فهذا المجال الذي ينبغي أن يذوب فيه الجميع على أساس المساواة والحقوق الكاملة؛ أضحى مُجزّأ (لكل جماعة فضاءاتها وفضائيّاتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها). وتكفي ضغطة على الريموت كنترول أو نقرة إبحار في عالم النت لنختبر صدق هذا التحليل.