ما هي المتغيرات العربية والفلسطينية التي دفعت بمختلف الغرماء الفلسطينيين للقبول بالمصالحة؟. وما الدوافع التي جعلت الرئيس الفلسطيني أبومازن على استعداد لإغضاب الإسرائيليين والأمريكيين معاً، وقبول تهديداتهم التي تجاوزت لغة التهديد، وتحولت إلى أمر واقع؟، أسئلة وعدنا في الحديث السابق بمناقشتها ومحاولة الإجابة عنها.
يمكن في سياق الإجابة على هذه الأسئلة، الإشارة إلى التحولات الكبرى التي شهدتها بعض الأقطار العربية.
وإذا كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" قد طبع معظم الانتفاضات الشعبية في الوطن العربي، فإن الساحة الفلسطينية تفردت بشعار "الشعب يريد إنهاء الانقسام". بمعنى آخر، إن إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة هو مطلب شعبي بامتياز. لم تكن هتافات المطالبين بإنهاء حالة الانقسام متحيزة لفريق فتح أو حماس، بل وضعتهما في كفة واحدة، من حيث تحميلهما مسؤولية استمرارية التناحر والانقسام بين الفلسطينيين، بدلاً من توجيه طاقاتهما نحو الكفاح ضد العدو الصهيوني.
السبب الآخر لتحقيق المصالحة، كما نراه هو إدراك الفريقين الفلسطينيين فشل إستراتيجيتهما الكفاحية، وضرورة التوصل إلى طريقة جديدة ومغايرة. لقد فشلت إستراتيجية فتح التي تعتبر التفاوض مع الصهاينة، وهجوم السلام الطريق الوحيد الممكن لانتزاع الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة من قبل الإسرائيليين والأمريكيين والأوروبيين على السواء. فبعد مفاوضات ماراثونية تواصلت مع الكيان الصهيوني، بشكل مستمر منذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993م، حتى يومنا هذا، أكلت من حصة الفلسطينيين، دماءً وشهداء، وأرضاً ومياه، غدا مؤكداً أن الإسرائيليين لا ينوون مطلقاً الاعتراف بالحقوق، وأنهم يستثمرون استمرار الجمود لبناء المزيد من المستوطنات الإسرائيلية، وإقامة الجدران العازلة، وقضم المزيد من الحقوق الفلسطينية. وفشلت من جهة أخرى، إستراتيجية حماس، التي ركزت على المقاومة المسلحة، كسبيل وحيد لتحرير فلسطين. وقد قبلت حماس بالتهدئة مع الكيان الغاصب، والتزمت بذلك لأكثر من عامين. وخلال هذه الفترة، عانت حماس من العزلة السياسية والحصار الاقتصادي، وإغلاق المعابر الموصلة إلى قطاع غزة من قبل الإسرائيليين، والأنظمة الحاكمة على الصعيدين العربي والدولي. وبقي مأزق غياب الإستراتيجية العملية للتحرير مستمراً على ما هو عليه.
لكن العنصر الحاسم، في عودة الوعي لدى السلطة في رام الله وحركة حماس في قطاع غزة لم يتمثل فقط في إدراكهما للمأزق الذي يمر به الكفاح الفلسطيني، ولفشل استراتيجيتيهما في التحرير، بل أيضاً في وعي شباب فلسطين، عناصر المستقبل، بهذا الفشل، وتلويحهم بإشعال انتفاضة فلسطينية ثالثة، تكون بديلاً عن إستراتيجيتي فتح وحماس، وتوجيه الاتهام المباشر من قبلهم لقيادتي فتح وحماس بإعاقة النضال الفلسطيني. لقد وجدت قيادة السلطة في الضفة الغربية، والحكومة المقالة بقيادة حماس في قطاع غزة، في الحركة الشبابية نذيراً بإفلات زمام الأمور من أيديهم. وهنا تبدو فكرة القبول بالمصالحة الفلسطينية، بين مختلف منظمات المقاومة الفلسطينية، إنقاذاً لمختلف الغرماء، ومحاولة لبقائهم في الساحة.
إنها إذاً قرارات دقيقة، ومرتبطة بحسابات الأرباح والخسائر، من قبل حركتي فتح وحماس. فخشية القيادتين التي حكمت موقفهما في السابق، من نتائج المصالحة لها ما يبررها عملياً. وقد رأينا أن الكيان الصهيوني لم يتأخر كثيراً بعد الإعلان عن اتفاق فتح وحماس، عن إطلاق تهديداته بمحاصرة رئيس السلطة، أبو مازن" في مقره برام الله، كما فعل من قبل مع الرئيس الراحل ياسر عرفات. وقد ألحق تلك التهديدات بوقف تحويل الضرائب الفلسطينية للسلطة، بذريعة الخشية من تحويل تلك المبالغ إلى حماس، لاستخدامها في عمليات تخريبية ضد إسرائيل. كما أن موقف حركة حماس السابق من رفض المصالحة يبدو هو الآخر مفهوماً. فهذه الحركة تعلم أن قبولها بوساطة مصرية في عهد الرئيس السابق مبارك يعني ضمنياً قبولها بمسار أوسلو، بما يحمله ذلك من تفريط بالثوابت الفلسطينية التي استمدت مشروعية حضورها من خلال تبنيها لها. كما يعني من جهة أخرى، خضوعاً لموقف مصري، تراه يقف متحيزاً لصالح حركة فتح، وتحكمه مواريث ومواقف سلبية تاريخية لهذا النظام من جماعة الإخوان المسلمين التي خرجت حماس من رحمها.
كان وعي القيادة المصرية، باتساع شقة الخلاف بين الحركتين، وبوجود حالة من الشكوك وعدم الثقة بينهما، قد دفع بها لصياغة مشروع اتفاق فضفاض، يحمل نبرات متفائلة، إلا أنه يمتنع عن الدخول في التفاصيل. لقد ركز الاتفاق على الترتيبات الحكومية، والانتخابات، والأمن، وحل قضايا المعتقلين، ولكن مبادئ العمل السياسي وقضايا المقاومة والمفاوضات جرى تجاوزها. لكن الطرفين سيستفيدان من تحقيقه. فحماس ضمنت بعد انتصار الثورة المصرية علاقة جيدة مع النظام الجديد، وكانت بشائر ذلك في قطع بيع الغاز المصري للكيان الصهيوني، وفتح معبر رفح، وتبني القيادة المصرية سياسة تنأى عن التحالف مع الكيان الصهيوني. إن حماس تتفاوض الآن مع فتح برعاية وسيط، ترى أنه محايد ونزيه، وعلاقتها به ليست مثقلة بمواريث صراعية، كما كان الحال مع النظام السابق.
ورئيس السلطة الفلسطينية، السيد محمود عباس يرى في تحقيق المصالحة دعماً قوياً له في معركة يرغب في خوضها من خلال الأمم المتحدة، بهدف إنجاز اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية المستقلة، على الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب حزيران/ يونيو عام 1967. وربما أراد من خلال تحقيق المصالحة أن يبلغ الأمريكيين والصهاينة، بوجود أوراق قوية تدعمه في المفاوضات لتحقيق صبوات الفلسطينيين في الحرية والاستقلال. والسؤال الذي يبقى بحاجة إلى جواب: هل ستصمد عملية المصالحة؟ وما هو الموقف الإستراتيجي المستجد، لتصعيد الكفاح الفلسطيني، أسئلة ستتكفل الأيام القادمة بالإجابة عنها.