لا ينتهي التاريخ العربي الحديث، بحسب برنارد لويس في كتابه الأخير، مع بداية الثورات الأخيرة بل مع نهاية الحرب الباردة بين أميركا والاتحاد السوفييتي. أطروحة لويس كالتالي: نشأت الدول العربية الحديثة في منتصف القرن العشرين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية في الوقت الذي نشبت فيه الحرب الباردة بين قطبي القوى العظمى في العالم: السوفييت والأميركان. نشوء الدول العربية في هذه الأجواء جلعها، وهي حديثة الولادة، تسلّم نفسها لأحد الطرفين وتستظل بظلاله. بحسب لويس لم تكن هذه الدول محتاجة لتولي شؤونها الخارجية وأحيانا كثيرا الداخلية بنفسها بقدر ما كانت ترتمي ضمن سياق معين يرسم لها سياستها. الدول التي اختارت أميركا استسلمت للمسار الأميركي وسارت معه أينما سار في الصراعات الدولية والإقليمية. في المقابل الدول التي اختارت الخط السوفييتي انخرطت في مواقف معروفة واحتمت بحماية الأخ الأكبر. استظلت الدول العربية بظلال هذين الأبوين طيلة الصف الثاني من القرن العشرين. الذي حدث مع نهاية هذا القرن أن المعادلة انتهت بنهاية الاتحاد السوفييتي ودخول العالم في سياسة القطب الواحد الذي غيّر هو ذاته دوره في العالم مع أزماته الاقتصادية وفشل كثير من مغامراته الأخيرة. يمكن أن نكمل صورة لويس هنا ونقول إن الأبناء اضطروا للبلوغ والاعتماد على الذات. الكثير من هؤلاء الأبناء عجزوا عن الاستقلال الحقيقي وبدأوا يتساقطون الواحد تلو الآخر. الاختبار الحقيقي كشف هشاشة هذه الأنظمة وعجزها عن إدارة مجتمعاتها بشكل سليم.

الصورة التي يرسمها لويس هنا على جزء كبير من الحقيقة ولكنها تأتي في إطار أوسع منها يجعل العالم كله يدخل في حقبة تاريخية جديدة: حقبة ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي حسمت الصراع لصالح الغرب وأنهت الحرب الباردة. ثورة الاتصالات، كما ندركها اليوم، أحدثت تغييرات جوهرية في طبيعة العلاقات التي تربط الفرد بالمعرفة وسلطتها مما أدى إلى تحول مستمر في موازين القوى داخل المجتمعات بكافة أنواعها. أحد هذه التغيرات وهو ما يهمنا هنا هو التغير الذي حصل في دور الدولة كمؤسسة تدير المجتمع. الدولة التقليدية، ولا يزال هذا الوصف مناسبا لما تعتقده الدولة العربية الحديثة ويمثل اغترابها عن الواقع، دولة تأسست على أنها هي المشكّلة للوعي من خلال سيطرتها - وفق أيديولوجياتها الحزبية- على التعليم والإعلام والمجال العام. بهذه السيطرة تستطيع الدولة ممثلة في الحكومة تشكيل الشعب وصياغة وعيه وتفكيره ومواقفه كما تريد فهي تمسك بمفاتيح المعرفة والمعلومات. هذا الدور تم كسره كسرا فادحا لتتحول الدولة ممثلة بمؤسساتها العامة إلى لاعب هامشي في ميدان المعلومات والمعرفة وصياغة الوعي. لاحظ هنا أن الدول العربية تلهث لهاثا مؤسفا ومثيرا للشفقة لمحاولة إبقاء سيطرتها على كل شيء ولكن المعركة تكشف عن خسائر متتالية للدولة التقليدية في مقابل فتوحات يومية لوسائل المعلومات التي تحقق قفزات هائلة متتالية.

مع تسعينات القرن العشرين، ومع القنوات الفضائية والإنترنت، انطلقت هذه الرحلة لنصل حتى الآن إلى النتائج التالية: وسائل الإعلام الرسمية هي الأقل متابعة وتأثيرا، سيطرة الدول على الوسائل الخاصة يقابلها سيل هائل من إعلام الأفراد والنشر الذاتي المتحرر باستمرار من سلطة السياسة والمال. التعليم العام يخسر تأثيره وسمعته بالمقارنة مع التعليم الحديث. الأفراد يشكلون وعيهم من خلال تواصلهم الفردي مع بحر المعلومات وتحلل دور مؤسسات المجتمع التقليدية المسيطر عليها من قبل الدولة. كل هذا التحول يخالف صلب تصميم الدولة التقليدية وفلسفتها وتصورها للعالم ويجعلها في واد والعالم في واد آخر.

في الدول التي تتأسس شرعية الحكومة فيها على احتكار الحق في تشكيل الوعي العام تشهد تحولات سريعة، بحسابات التاريخ، تدخلنا في حقبة جديدة ما زلنا نتعرف عليها يوما بعد يوم. ما يجري اليوم عربيا لا يمكن أن يتم توجيهه بإرادات سلطوية احتكارية فهو في جوهره انقلاب على هذه الحالة بالذات. انقلاب على حالة تسيير جهة معينة للجميع. هناك تيار جارف من المعارف والمعلومات والمواقف تتحكم فيها الحاجات الجماعية أكثر من إرادة النخب التقليدية. ومن هنا تعتبر المفاوضات بين الحكومات شبه المنهارة وقوى المعارضة التقليدية أشبه بالنكتة والمسرحية الهزلية. لا يزال هؤلاء يعتقدون أن لديهم القدرة على التحكم في الأمور تبعا لأدوارهم التقليدية. تعيش هذه الجماعات حالة اغتراب هائلة ولا تعلم أنها حتى وإن وصلت إلى اتفاقات فيما بينها، كما هو الحال في اليمن، فإنها لن تتعدى اتفاقا ورقيا فاقدا لقيمته على أرض الواقع ولن يصمد أمام اختبار الواقع.

هذا برأيي هو التحول التاريخي في العالم كله. في الدول التي استطاعت التحول إلى جزء محدود الصلاحية وذي أدوار أمنية طبيعية لحفظ حقوق الأفراد الأساسية، والدول التي تلعب مؤسسات المجتمع المدني فيها أدوارا أساسية ويتمتع الأفراد والجماعات فيها بحقوق الإنسان الجوهرية لا تمثل الثورات التقنية الحديثة خطرا على وجودها بقدر ما تمثل تحولا وتغيرا جوهريا ولكنه سلمي في حياة المجتمعات. في الدول التقليدية الأخرى ما يجري هو إعلان عجز مستمر من قبل الدولة التقليدية عن إدارة شؤون المجتمع. ما يجري في كثير من دول احتكار الحق اليوم هو عملية إنعاش لجسد مصاب بالغيبوبة. لن يتورع الحكام من استخدام الصعق الكهربائي لإحياء أنظمتهم المتهالكة ولكن التاريخ يؤشر ويقول إنها حقبة تاريخية وانتهت، ولابد من معادلة جديدة. المؤسف أن الكثير يدفعون ثمنا غاليا لهذه المكابرة. ولكن الجميل أيضا أن نورا في آخر النفق المظلم بدأ يشرق ويقترب.