نستكمل ما بدأناه عبر مقالين سابقين، حول حقيقة معنى "واضربوهن" في آية من سورة النساء، ولأننا في ظلّ إعمال العقل نسأل لنفهم ونتعلم، هل يمكن أن يكون الضرب بمعنى الأذى البدني هو من فعل المعروف؟ أي هل يتلاءم الأمر بالضرب البدني مع الأمر في سورة البقرة "فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ"؟ فإن كان الله تعالى أمر الرجل في حالة تطليقها أن يسرحها بإحسان، وهي درجة عالية من التعامل بتسامح حدا لغضبه مع الطلاق، فكيف إذاً يمكن أن يكون هناك أمر للزوج بضربها وهو يعاشرها؟ ولأنه حاشا القرآن أن يقع في التناقض، يحرض ذلك إلى إعادة النظر في فهم "واضربوهن"، وقد حاول كثير من الفقهاء أن يخرجوا من هذا المأزق بأن أمر الضرب صفته غير مبرحة، بل قد تكون بالسواك! مع ذلك يبقى الضرب البدني ضربا بدنيا ويتنافى مع المعاشرة بالمعروف. فلماذا لا نوسع الدائرة، وخاصة أن الاستخدام القرآني لـ"ضرب" تعددت معانيه كما أوضحت في مقال الأمس؟ وحين استخدمها بمعناها السائد كانت إما مع أشياء لا تشعر فينتفي الأذى البدني، نحو ضرب موسى بعصاه الحجر والبحر، ونحو ضرب قتيل بني إسرائيل ببعض لحم البقرة، أو مع من استحقوا غضب الله ممن كفروا به. والمرأة إنسان حي يشعر وليست جمادا، كما أنها حين تنشز على زوجها لا تصل لمرحلة الكفر لتستحق ما استحقه الذين كفروا. فهل يعقل أن يؤمر الرجل بضربها وقد راعى القرآن الكريم استخدام "ضرب" في معان عديدة، خاصة وهي كائن ضعيف، في ظلّ طبيعة قوة الرجل التي لا يحتاج معها لأن يُشرع له ضربها؟
إذاً ماذا تعني كلمة "واضربوهن"؟ هناك قلة قليلة جدا من المحدثين ذهبوا إلى أن معنى "واضربوهن" ليس على المعنى السائد وهو الضرب البدني، بل جاء بمعنى "الإعراض والإضراب عن الزوجة". ومحاولة للتجرد من كل ما تمّ تناوله من قبل في الآية، لنفكر معا، فحين نعود إلى معجم لسان العرب لابن منظور، وهو من أضخم معاجم لغة العرب، نجد أن كلمة "ضرب" تعددت معانيها واختلفت عن السائد المعروف بشكل كبير منها "ضرب الدرهم: طبعه" و"ضربت العقرب: لدغت" و" ضرب العِرق والقلب: نبض وخفق" و"الضارب: المتحرك" و"الضَّرب: الإسراع في السير" و"المُضاربة: أن تعطي إنسانا من مالك يتجر فيه"و" المُضارب: صاحب المال" و"فلان يَضرب المجد: أي يكسبه ويطلبه" و"ضرب على يده : أمسك، وكفّه عن الشيء" و"ضربتُ عن الشيء : أي أعرضتُ عنه وكففتُ" و"أضرب الرجل في البيت أقام فيه" وغير ذلك كثير، وهنا يطرح السؤال نفسه، أي من معاني "ضرب" يتناسب مع سياق الآية الكريمة في سورة النساء في ظلّ الإيمان بأن دين الله هو دين عدالة وكرامة إنسانية، وأنه حاشا أن يكون هناك أي تناقض في القرآن العظيم؟
فكروا وتدبروا وتأملوا، وغدا نكمل في مقال رابع وأخير، فالمساحة ترغمني على ذلك.