كثير من القدماء وتبعهم المقلدون من الأجيال المتلاحقة، يستشهدون بتشريع ضربها لتأديبها مع اختلافهم في كيفية تحديد ذلك وعلى أي فعل تستحقه؛ من قوله تعالى في سورة النساء "وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا". وبعيدا عمّا قاله المفسرون مما طالعتُ جُله في تفسير الآية الكريمة؛ والذين أكثرهم تبعوا الإمام الطبري ـ رحمه الله ـ بما يُفهم من ظاهرها؛ وكما أن التعرض لأقوالهم بالتفصيل لا تحتمله هذه المساحة؛ وإنما كتاب ربما يخرج يوما؛ إلا أنه يمكن الإشارة إلى أن أكثرها نهض على ثقافة المجتمع العربي في تلك الأزمنة؛ من تفسير انطباعي ما يتناسب مع منطق مجتمعه الذكوري.
أعود للآية الكريمة وما أنا في قراءتها إلا باحثة مجتهدة في سياق اللغة وهي شفرة الفهم كونها منطق إعجازه؛ والسؤال مفتاح للفهم؛ فهل يمكن أن معنى الضرب مختلف عما فُهم من ظاهر المعنى "الأذى بقصد التأديب"؟ ولكن؛ لماذا نستحق أن نسأل ذلك؟ الإجابة؛ لأن النص القرآني استخدم كلمة "ضرب" في عدد من الآيات على معنى يختلف عن الفهم السائد الذي تم فهمه في "واضربوهن"؛ ومن ذلك قوله تعالى "وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ"، أي يمثل ويذكر الله الأمثال للناس؛ مثله قوله" وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ" وهذا الاستخدام القرآني هو الغالب؛ كما أنها جاءت بمعنى ابتغاء الرزق كما في قوله" وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ"، وجاءت بمعنى السفر والسير في الأرض لقوله"وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ" وبمعنى آخر كما في قوله "ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا" أي لازمتهم المذلة؛ وبمعنى المنع كما في قوله"فَضَرَبْنَا عَلَى? آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا" أي منعناهم أن يسمعوا؛ وبمعنى الإعراض والكف عن الشيء في"أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا" وأيضا بمعنى الوضع مع الإسراع كما في"وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى? جُيُوبِهِنَّ" أي يسرعن بوضع خمرهن على صدورهن؛ وغير ذلك من استخدامات.
وحين نتأمل بعض الآيات التي استخدمت معنى"الضرب" على حقيقته؛ تتم ملاحظة استخدامها إما مع من لا يشعر بالأذى؛ كقوله"وَإِذِ اسْتَسْقَى? مُوسَى? لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ" والحجر جماد لا يشعر؛ وكذلك "فَأَوْحَيْنَا إِلَى? مُوسَى? أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ" والبحر كالصخر؛ وأيضا في قوله "فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَ?لِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى?" والمضروب هنا هو ميت تم قتله؛ وضربه لا يتسبب في أذيته؛ وإما أن تستخدم مع من استحقوا غضب الله ممن كفروا به؛ كقوله" وَلَوْ تَرَى? إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ" أما الموضع الذي جاء فيه ضرب زوجة نبي الله أيوب على حقيقة المعنى؛ في قوله "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ" ففيه من رحمة الله ما يؤكد أن معنى "واضربوهن" لم يأت بمعنى الفهم السائد، وهو الأذى بقصد التأديب؛ فلولا أن أيوب حلف باليمين على ضربها واليمين عظيمة؛ لمنعه الله تعالى، وأنتم تعرفون القصة؛ والله أعلم.
إذاً ما المعنى الذي يمكن أن نقرأه في"واضربوهن" ؟ غدا نكمل.